رسالة عيد القيامة المجيدة 2011

المسيح قام … حقاً قام

تهنئة حارة لشعب مصر وللقوات المسلحة التي عبرت بنا إلى حياة القرن الحادي والعشرين، جاءت قيامة مصر بالدم والمعاناة؛ لأن الجديد لا يُكتب بالحبر، وإنما بدم وعظام الأوفياء من شعبنا العظيم.

لقد ضاعت كل التوسلات للإصلاح والتجديد وغرس الآمال والرجاء في خطابات شخصية، ومقالات تحمل آمال وواقع يجب أن يخلقه الأوفياء، ولكن كل هذا ضاع في ملفات الاحتكام للقوة وأحلام السيطرة وبسط النفوذ دون خدمات تقدَّم للكادحين ويد تمتد للمعدمين.

هكذا نقرأ صفحات بشارة الحياة تكتب دائماً على صفحات كتب تاريخ كل شعب، حيث يقوم النضال ويدفع البذل كل تراكمات الفساد والاستبداد لكي تشرق شمس الحرية.

لقد وقف المكر والدهاء والخيانة والقوة صفاً واحداً ضد رجل واحد جاء ببشارة الملكوت، وبحياة لا تخضع لتراكمات الشريعة القديمة، فصار الصديق والمحب لجامعي الضرائب القساة وللزناة وصيادي الأسماك والتجار. وجال يقول إنه أعظم من هيكل سليمان، وإنه رب السبت، وكسر شريعة موسى الخاصة بالسبت ورفض أن يرجم زانية، وغفر لأخرى قبَّلت قدميه رغم أن قبلة الزانية نجاسة حسب المشنا. رفض أن يعطي الملكوت للأقوياء وأن يسمح للتسلط، أو أن يخضع لتفاسير علماء الشريعة. كان حراً ولا زالت الحرية في كل عصر وفي قلب كل إنسان تصارع جمود القوانين تطلب أن يكون الإنسان أعظم من التشريع، وأن لا يتحول التشريع إلى قيد حديدي يقتل الإبداع ويسجن الحرية باسم النظام ويستعبد الإنسان باسم الطاعة العمياء.

وأصبح يسوع هو أمير الفدائيين وملك الأحرار، وعندما صُلب تحول الصليب إلى رمزٍ للفداء والبذل وبات من الحتمي أن يصبح هو علم الخلاص من تركة الماضي وشبكة الاستبداد. ومات يسوع مصلوباً بين لصين، ولكن دم المصلوب سرى في عروق كثيرة، ودخل حتى في عظام المنكسرين، فصار مثل قطرات مطر خفيف تجمَّع، فجرف سلطان روما. وتحايل القياصرة على الصليب، فوضعوه على تاج الملك. وزيَّف أمراء الحروب دلالته، فوضعوه على الدروع. جاء الالتفاف حول الصليب، بل والمصلوب في هجمات القوة على الحرية وفي تجييش القوانين والتشريعات لكي تستبد جماعة بأخرى، وضاعت في آفاق الليل الأسود البهيم صرخات يسوع ونام الزمان هادئاً، فقد سيطرت القوة وساد الكذب وتسلطن الخداع، بل وضع كهنة الكذب الصليب على ملابسهم زينةً بألوان الطاووس لكي يجمعوا الأموال ويأكلوا باسم الصليب “حق الأرامل والأيتام”.

ولكن الصليب مثل ثقبٍ في سدِّ الظلم المنيع ينـزل منه الماء في هدوء يسوع نفسه، فإذا بالسد ينهار. وتظهر عورة الكذب في أفظع أشكالها، ويتحول صليب زينة كهنة الكذب إلى حكمٍ صارمٍ لا يمكن أن يلغيه الزمان، هو حكم الرحمة على القسوة، وحكم العطاء على الطمع، وحكم المحبة على البغضة، وحكم البذل على الأنانية، وحكم الخدمة على الترفع، وحكم التواضع على الكبرياء. وعاد وجه يسوع المصلوب يشرق من جديد في صرخات الشعراء التي تنشد للحرية وحشرجات الشهداء الذين تلمع عيونهم برؤية الفجر الآتي وانكسرت قيود الماضي، فقد ماتت حبة الحنطة، ولكنها أتت بسنابل الحرية وصارت خبز الحياة (راجع يوحنا 12: 24).

القيامة هي محور التاريخ عندما تقوم الشعوب من كبوة الماضي وهزيمة العدل. وعندما يقف الظالم أمام شعب يهتف للحياة بصدور عارية، وتنطلق رصاصات القتلة من بنادق الذين كانوا في خدمة الأمن، فصاروا كهنة السلطان وحراس الاعتداء .. يتغير كل شيء:

* يصبح الضعيف صاحب حق، فقد سقط قناع السلطان.

* يفقد القوي قوته، فقد ظهرت تحت القناع أنياب التسلط.

* وعندما تهجم الذئاب على الحملان ويشبع الذئب من لحم الحمل، فإنه يفر هارباً من الميدان، فقد عرف الكل أنه ذئبٌ يطارده الخجل، وتمسك به مصيدة الكذب التي سبق ووضعها في طريق التقدم بكل حذر وحنكة، ولكنها تمسك به لأنه لم يصدق أن هذه المصيدة سوف تقيِّده هو وتشهر علانية افتراسه.

الموت يسبق القيامة ولا عبور إلاَّ بالموت. هذا هو فصح مصر في عام 2011 والذين فاتهم قطار الاحتفال بالفصح لأنهم خدام السلطان، سوف يمر قطار الحرية والتقدم أمام أبوابهم ولن يركبوا القطار؛ لأنهم لا زالوا في قصور العصر الوسيط نائمون على وسائد السلطان الكهنوتي المزيَّف، والذي يكشف عورة الجهل التي ستروها بثياب ملونة وصلبان مزركشة .. والالتفاف حول الصليب والمصلوب، هو قصةٌ تعاد في كل عصر. ولم يكن عبثاً أن قال يسوع: “ها أنا معكم كل الأيام والى انقضاء الدهر (الزمان)” (متى 28: 19) فهو معنا يرى قصته في ميدان التحرير، وفي قلب كنائسنا، تعاد من آن لآخر لكي تتم القيامة لأن “الجلوس في الظلمة” أشرق عليهم نور الحياة.

* مَن ذاق قوة القيامة لا يخاف من الشهادة، ولكن لا نذوق هذه القوة إلاَّ عندما نشهد.

* مَن يؤمن بالقيامة يعرف قوة المحبة ولا يُستعبد للبغضة؛ لأن القيامة كما قال النزينزي: “المسيح قام لنقبل بعضنا البعض” فقد سقطت العداوة تحت قدمي الحي، سمرت رجليه، فداس عليها، وثقبت يديه، ولكنه مد يديه بالسلام.

* مَن ينشد المسيح قام لا يعرف المداهنة ولا يقبل النفاق؛ لأن الحق حي وهو شخص السيد، سيد الحق ومعلم الحق الذي نتبعه.

* مَن يسير في موكب نصرته (كولوسي 2 : 16) يحب جسده؛ لأنه مثل الروح أو النفس دُعي لحياة خالدة في ملكوت “الحي إلى أبد الآبدين”.

* لقد سار المسيح في شوارعنا عندما انطلقت صرخات الحرية وعندما سقط الشهداء، فأعاد الشباب كتابة صفحات من إنجيل يسوع ذلك الذي نقرأه ليس على ورق بل في لحم ودم .. فلم يكن إنجيل يسوع في أي يوم كتاباً يُقرأ، بل في حياة متجسدة تضاف إليها سطور وفصول، أُضيفت في الإسكندرية، أنصنا، أنطاكية، القسطنطينية، روما، ميلان والبراري في فلسطين ومصر، وعلى قلوب الفلاحين في إسنا وعلى حِجر الأم دولاجي، وبفارس الشهادة مار جرجس وغيره من فرسان يسوع مينا، بقطر، ارمانيوس، والسطور باقية تنتظر من يملأها بحياة المتجسد بعد أن أضاف إليها مينا المتوحد ومتى المسكين، وصموئيل الأسقف والشهيد، وباقي الخورس .. تلوح سمات وجوههم في آفاق الحياة الآتية.

قيامة سعيدة لمصر ولكنيسة مصر أم الشهداء

د. جورج حبيب بباوي

التعليقات

3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة