تجسد الكلمة والعواصف التي تضرب سفينة الوطن – رسالة الميلاد المجيد 2012

مصر الرائدة:

عامٌ جديد، عامٌ سعيد يا مصر.

“مصر بلد يعيش في قلوبنا”، تلك هي كلمة رائد الوطنية مكرم عبيد التي لمعت داخل مساحة الصراعات الكبرى التي تلبس ثوب العقائد الدينية، تقاوم الحداثة التي باتت تنبت في بلدنا الغالي، والتي شُيِّدت على حقيقةٍ تضرب الأحقاد بكل صورها، ألا وهي: الاعتراف بحق الآخر، ليس فقط في الوجود، بل في الحياة الحرة والمساواة الكاملة.

في وطنٍ كان رائداً للحضارة والثقافة لا بُد وأن تصطدم الحداثة بالفقر والأمية. وعندما يصبح رغيف الخبز مطلب حياةٍ، فمن ذا الذي يمكنه أن يسأل عن حقوق الآخرين. وعندما يُطبق الفقر على أنفاس البشر، فمن ذا الذي يمكنه أن يسأل عن أهمية الديموقراطية – عندما تلوح بارقة أمل في أي نظام وتحت أي شعار – إذ كانت آلام المرض والفاقة قد نهشت كل القوى الفكرية والروحية، وأصبح “الغد” هو اليوم: “احيني النهاردة وموتني بكره”. تلك هي صرخة الفقر والعوز تحاصر كل ما نعرفه عن الحرية …

الكبوة:

نصف قرن من الزمان، والقوانين لا تعرف الاستقرار، والدساتير آلةٌ في يد حفنة تحكم لمصلحة أو مصالح شخصية … فمن ذا الذي يمكنه أن يصدق الوعود أو القرارات المكتوبة، أو المعلَنة … تلك آفةٌ تأكل أي نظام سياسي انعدمت فيه الثقة، وصار الشك هو الحاكم الأعلى السائد في ثنائية الخطاب الجماهيري.

كأن تحريك وحشد أكبر قدر من البشر، أصبح هو مقياس الحق، وكلما علا الصراخ كلما باتت الأحكام جاهزة .. ولكنها ليست أحكام القانون، وإنما هي أصوات وصراخ هذا الحشد من الناس. وما ذلك العدو الرهيب الذي ليس له حدود يقف عندها، إلاَّ وحش التعذيب النفسي والجسدي بواسطة حماة القانون، وحماة حدود الوطن.

في دول العالم الأول التي توصف بالديموقراطية: الشرطة والجيش هما لحماية الشعب والوطن. أمَّا في دول العالم الثالث – تلك التي تمد يدها تتلقف رغيفَ خبزٍ – فالشرطة والجيش يحميان الحكومات من الشعب .. الشعب يدفع ثمن هذه الحماية للسادة الذين يأكلون “رزق” الشعب، ويقتلون – بعد تعذيبٍ – كل من تجاسر على رفع عقيرٍ، أو صوت يطلب أدنى حق من حقوق الإنسان التي صارت تُعرف بين دول العالم كله على أنها أول مطالب الدولة الحديثة المدنية.

الخديعة:

في أسطورةٍ قديمةٍ سمعنا أن الفضيلة والرذيلة – في يومٍ قائظٍ – ذهبا معاً للاستحمام في نهر. فأسرعت الرذيلة وخرجت من الماء ولبست ثياب الفضيلة، ولأن الفضيلة تعرف الحياء، فقد تعذَّر عليها أن تسير عارية، فلبست ثياب الرذيلة .. ومنذ ذلك اليوم، السُّذجُ وحدهم، اختلط عليهم الأمر، فأصبحوا يرون الرذيلة وكأنها الفضيلة، والفضيلة اكتست بالرذيلة … نعم السُّذجُ وحدهم هم الذين غامت عن عيونهم الحقيقة.

ولكن القتل باسم الله، وتحت أي أحكامٍ – مهما كان مصدرها التاريخي – ليس سوى الرذيلة بعينها وقد تلبست ثياب الفضيلة. والقهر والاستبداد والظلم والاستعلاء والاستكبار واحتقار الآخرين – مهما كان ثوب أيهم – ليس سوى اعتداء على أعظم مخلوقات الله، وهو الإنسان، تلك حقيقةٌ لا مراء فيها لكل ذوي الفطنة.

وهكذا تجد العواصف التي تحدث الآن بمصر، تجد بؤرتها في تلك الشعارات التي تعادي شعارات أخرى، وفي الأحزاب تتهم أحزاباً أخرى … وأصبح الاتهام بكل أنواعه – ممكنةً أو غير ممكنةٍ – هو ثوب الرذيلة الذي تلبسه في اعتزازٍ تستمده من عنفٍ يسايرها …

القيامة بالتجسد:

في هذه الأجواء الساخنة والمشحونة، يهل علينا عيد تجسد الكلمة ابن الله .. وبالمناسبةِ فهو ليس عيداً سنوياً كما يبدو في الفلكلور الشعبي؛ لأن الكلمة المتجسد قال بفمه الإلهي: “جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ” (متى 25: 35 – 36).

أليست هذه هي أيقونة الحياة التي يحياها المُتجسِّد كل يوم وكل ساعة؟

هكذا ترك الكلمة المُتجسِّد حرية البحث، وحرية المحبة لضمائر وقلوب الأحرار. لم يؤسِّس هذا على شريعةٍ، سوى شريعة الواقع، أي واقع الجائع – العطشان – الغريب – العريان – المريض، ثم أضاف يسوع دون ترددٍ: “المحبوس” أو “المسجون”. وعندما يسأل الذين وصفهم يسوع “بالأبرار” (متى 25: 37): متى فعلنا هذا، أي: طعام للجائع – ماء للعطشان – مأوى للغريب – كساء للعريان – زيارة للمريض والمسجون؟ .. هم يسألون متى فعلنا هذا معك يا يسوع؟ والجواب الحصري: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ – نعم أخوة يسوع في الانسانية المعذبة الأسيرة – فقد فعلتموه معي، أو حسب الأصل “فَبِي فَعَلْتُمْ” (متى 25: 40).

وضع يسوعُ إذن الإنسانَ في قلب الإنسان؛ لأنه إن لم تسكن الرحمة والمحبة والخير في قلب الإنسان، فلا قانون ولا شريعة تستطيع أن تخلق المحبة في قلوبٍ تفتش عن الغيظ والكراهية، وتُسقِطُ الأحقادَ على الآخر، وتجد في الآخر “كبش الفداء”؛ لعل في موته أو عذابه تكمن راحةٌ وفداءٌ من سرطان البغضة الذي لا علاج له إلاَّ بموت المريض، لا بموت كبش الفداء. فالبغضة وُصِفَت في العهدين القديم والجديد بأنها الشيطان، وحمل ذلك المخلوق الخفي اسم “المهلك”، … فهو يبُث ميكروب البغضة ليقتل كل من سرت فيه العدوى.

دينونة التجسد:

إليك يا مصر، لم يغب الكلمة المتجسد عن منازلك وشوارع كل مدينةٍ فيكِ أو قرية أو مزرعة أو ترعة أو صحراء .. فهو يسير مع الجائع، وهو مع الغريب.

وقديماً – يا مصر – وعلى “مصطبة” القرية سمعنا من شيوخ القرية أن “الحسنة تجوز على راكب الخيل”، أي حتى على “الفارس”، فكيف لا تجوز على الجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والمسجون؟

وحكمة دينونة الكلمة المتجسد تتبدى في أن الذين أنكروا الطعام والشراب والكساء والمأوى والسؤال عن المريض والمسجون، قد أنكروا حق يسوع نفسه .. تلك هي آية تجسد الكلمة .. تلك هي آية الحكم الذي لم يصدر عن دستور أو قانون بل صدر من الواقع .. واقع مَن رفض أن يكون إنساناً، فجاء الكلمة لكي يجعل – بتجسدهِ – الإنسانَ إنساناً حراً، محباً، ميالاً للخير، لا يعيش في سجون القوانين، بل في حرية المحبة.

لقد تجسد الكلمة لكي نكون بشراً، ليس حسب أوهام الكراهية والاستكبار، بل حسب الرحمة والمحبة والحرية من الأهواء.

زمان الكلمة المتجسد لا ينتهي:

نعم، لقد سار الكلمة المتجسد في الكشح، والفكرية، وعزبة دميان، واحتفل برأس السنة في الإسكندرية مع الذين تطايرت عظامهم قبل لحمهم، وفي ميدان التحرير، وهضبة المقطم، وأمام ماسبيرو، وغيرهم، وهو لا يزال يسير مع كل جائع وفقير، حتى مع الذين اختاروا رغيف الخبز وفضَّلوه على حريتهم؛ فسجنوا أنفسهم في سجن الفاقة وفضَّلوه على غنى الحرية ..

لم يكن للجائع – حسب خطاب يسوع – دينٌ أو جنسية، ولم يكن للمريض أيديولوجية كانت هي التي زرعت فيه المرض، وقد يكون المسجون واجباً عقابه، أو قد يكون ضحيةَ عنفٍ لا مبرر له، أو شكاية كاذبة. أياً كان الأمر، لم يشترط يسوع شرطاً واحداً لإطعام الجائع، أو كساء العريان، أو عيادة المريض، بل حَسِبَ أن كل واحدٍ من هؤلاء هو أحد “إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ”.

ذلك هو عيد تجسد الكلمة في جوهره .. أمَّا في مظهره العام، فتلك قضيةٌ أخرى، سبق أن عُلِّقَت أحكامها على الجلجثة عندما ذُبِحَ البريء، الذي سُمِّيَ حملاً؛ ذلك أن الجزار الذي سلخه، لم يمد يده بالذبح ليأكل، بل لكي يطفئ شعلة محبة الآخرين، تلك التي لأجلها تجسد الكلمة.

د. جورج حبيب بباوي
يناير 2012

التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة