التوبة

لكون التوبة رجوعاً إلى الله، إلى كيانه، إلى حياته تحصل بنزول حياته عليك. أنت تتوجع أولاً لكونك حجبت وجهه عنك لتعطي وجهك حق أن يرى ما لا يريد هو أن تراه وتعطي يديك حق أن تلمسا ما لا يجوز لمسه وقدميك أن تسيرا إلى حيث لا موضع لك فيه. بمعنى آخر أنت تعود من غربة إذ لا يقيم ربك حيث أقمت واعتقدت أن لك في ذا فرحاً فهربت من المشقات ولا دخول إلى الملكوت بلا مشقة.

ونسيت أنك أنت أنت إذا استضافه قلبك، وبلا هذه الاستضافة أنت وكرُ أفاعٍ ووهم وجود. بالرب تحصل رؤيتك لنفسك ويبقى من صورته فيك على رغم الضلال ما يجعل فيك شوقاً إليه. وذكرى بهائه القديم فيك يطلقك من جديد إليه. سرٌّ هو نقطة اللقاء بينكما. واللقاء يحدث برضاه وافتقاده إياك دائمٌ، لكنك تؤثر لذاتك على إطلالاته عليك؛ لأن الخطيئة جعلتك سطحياً وأوهمتك أنها هي الكيان إذ ظنت أنها هي استمرار وجود وما كانت بوجود.

أنا لست مع القائلين إن ثمة إنساناً طاهراً بالكلية. آباؤنا اشتهوا ذلك لكنهم كانوا يحسبون أنفسهم خاطئين. الاحتساب أدخلهم إلى السماء. القلب البشري عند العظام بين فضائل ينهدون إليها ورواسب خطايا. لذلك كان عرين الصراع حتى يهدأ الإنسان بالموت. ينقينا ذكر الموت إن كنا لله محبين. ذكر الموت التماس السماء حتى يستقبلنا الله فيها برحمته. قبل تفجرها فينا نحن مجرد توق. التوبة أن تحول التوق إلى قرار وإذا عرفك الله صادقاً فيه يقبله. إذ ذاك يحل عليك التوق الأخير أن ترى المجد الإلهي.

■ ■ ■

التوبة ثمرة الإيمان فإن آمنت أن الخطيئة لطخة وأن التوبة عمادة جديدة تبدأ مسيرة التوبة. وأما إذا كان اشتياقك الخير تحركاً عاطفياً، جمالياً كان هذا نوعاً من الشعر. إن استيطاب الخير كجمال للنفس، ليس توبة. هذه استيطاب وجه الله. فيها عملية إبدال كل شيء بربك. فالنفس فيها رواسب الخطيئة ولو بكيت واسترحمت.

هؤلاء الذين نسميهم كاملين لا يبلغون النقاوة الكاملة ونحن في حدود الجسد ما يعني أنه كُتِبَ علينا جهاد موصول. نصل إلى الحد الأقصى في الفضيلة إذ بعد قيامنا بحركة محبة نلحظ أن هناك عنصر فساد في تصرفنا أحياناً. أنت تُسر إن قال عنك الكثيرون حسناً، وهذه درجة من درجات الكبرياء، أيُ افتخارٍ بعد إحسان يلطخ الإحسان. إن لم تقتنع أنك لست بشيء كل ما يبدو لك فيك فضيلة هجمة من هجمات الادعاء فيك. من هنا ضرورة ما تسميه كنيستي فحص القلب في كل حين حتى لا تعود إليه الأفاعي.

تفحص نفسك على ضوء الوصية: أحبب الرب إلهك … أحبب قريبك كنفسك. في الجزء الأول من الوصية الوهم وارد كثيراً إذ تظن في نفسك التقوى لقيامك بالصلاة والصوم وتكون صلاتك كلاماً مكروراً في بعض الأحايين، ويأتي صيامك نظاما طعامياً لا انكسار فيه. وهنا تحتاج إلى مرشد يعرف ما يفسد صلاتك والصيام. غير أن الامتحان الكبير، محبة الآخر. هذه أيضاً تداخلها أوهام ممكنة. المساءلة لا تنتهي بأنك غفرت له أو لم تغفر. السؤال الرئيس هل جعلت قلبك مملوءاً به لتجعل نفسك في خدمته الدائمة؟ والسؤال الكبير هو هل تفرق بين الناس فتخدم هذا وتهمل الآخر أم أن العطاء الإلهي الذي فيك تبدده على الجميع لأنهم بسبب من حنانك يعرفون حنان الله أي أنهم يتوبون بتوبتك وتتألف، إذ ذاك، الكنيسة؟

■ ■ ■

من أين لنا قوة التوبة أو قوة استمرارها؟ من الرجاء أي من الثقة بالله، من اعتقادنا أنه يصد عنّا التجارب. لذلك كان عدو التوبة اليأس أو هبوط الهمة إن كررنا السقطات. السر العظيم يكمن في هذا إن صلاة استغفار عابرة لا تنجينا. هناك سعي إلى تركيز النفس بشدة على رؤية المجد الإلهي. إن لم يتأجج الشوق إليه فيزداد التعلق به لا نعود إلى الفضيلة.

التوبة لهب في النفس هي عشق المسيح. هذا لا يعني أنك ترمي نفسك بخفة في أحضانه متوكلاً على محبته. تحتاج دائماً إلى مخافة الله. يجب أن نخشى عودتنا إلى الخطيئة. المخافة تربي وتحفظ، وإذا لازمتنا تدفعنا إلى الحب الإلهي الذي هو التوبة. الصيام زمان التوبة الكبير لأنه يحيطنا بالكلمة الإلهية ويجعلنا نمتصها حتى لا يبقى فينا إلاَّ حضورها وفعلها. وإذا لم نسقط في اليأس تلوح أمامنا ملامح القيامة.

المطران جورج خضر – النهار – 25/2/2012

التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة