لماذا أنا مسيحي أرثوذكسي؟

لماذا وأنا رجل إنجليزي، أنتمي إلي الكنيسة الأرثوذكسية؟ لقد ابتدأ كل شيء بعد ظهر يوم سبت عندما كنت طالب مدرسة، فبدون فكرة واضحة عن مكان ذهابي، دخلت ما كان عندئذ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في لندن في شارع باكنجهام بالاس بقرب محطة فكتوريا – كاوتش، والتي هُدمت قبل نحو ثلاثين عاماً، الداخل كان مظلماً. كان أول شيء لفت انتباهي المساحة الواسعة من الأرض المصقولة تبعثرت عليها بعض الكراسي وقد خلت من المقاعد. كانت الكنيسة تبدو خالية، بعدها أدركت أنه في مكان بعيد عن الأنظار، هناك جوقة صغيرة ترتل، استطعت تمييز قليل من المصلين، معظمهم متقدمون سناً، يقفون بجانب الجدران قريباً من الأيقونات العديدة.

هذا الانطباع الأول بالفراغ، وتقريباً الغياب، حل محلة فجأة إحساس بالامتلاء. لم أشعر بغياب بل بحضور، حضور مخفي لمصلين عددهم لا يحصى. عندها أدركت أن جماعة المصلين الصغيرة هذه هي جزء من فعالية أكبر بكثير من نفسها – فعالية أكبر بكثير من نفسها – فعالية لم تبدأ مع بداية الخدمة، ولن تنتهي مع نهايتها. لم أستطع أن أتتبع ولو كلمة واحدة من الخدمة لأنها كانت كلها باللغة السلافية للكنيسة، لكني عرفت، وسأستعمل عبارة من القداس السابق تقديسه، أن: “الآن القوات السماوية تخدم معنا بحال غير منظور”.

سمـاءٌ علـى الأرض: بعدها بأعوام قرأت في مجلة الكرونيكل الروسية قصة تحول الأمير فلاديمير، وصادفت القطعة التي بها يصف المبعوثون الروس الخدمة الإلهية التي حضروها في القسطنطينية: “لم نكن نعلم ما إذا كنا في السماء أم على الأرض”. قالوا “لا نستطيع أن نصفها لكم، لكننا فقط متأكدون من أن الله يقيم هناك بين الناس، كوننا لا نستطيع نسيان ذلك الجمال”. كما ولا أستطيع نسيان الصدفة في ذلك الإقرار عندما قرأت تلك الكلمات، فهكذا كانت خبرتي الشخصية تماماً. إن خدمة صلاة الغروب التي شاركت بها في كنيسة القديس فيلبس بشارع باكنجهام بالاس ربما تكون قد افتقدت البهاء الخارجي لبيزنطية القرن العاشر، ولكني ومثل المبعوثين الروس، أنا أيضاً شعرت بالإحساس “سماءٌ على الأرض”، بالجمال غير المنظور لمملكة الله، وبالحضور المباشر لتجمع القديسين.

ستة أعوام أخرى مرت قبل أن أقبل فعلاً داخل الكنيسة الأرثوذكسية، وكان ذلك في الكاتدرائية اليونانية في بيزوتر. درست في جامعة أكسفورد وأخذت بعين الاعتبار احتمال الرسامة في الكنيسة الإنجيلية، بالرغم من أني حقيقةً لم ألتحق بكلية لاهوتية. من الناحية الأرثوذكسية، لم يكن هناك ضغط تبشيري من أي نوع، فمع معظم من تحدثت، وفي الوقت الذي ذكروا فيه كنيستهم بعاطفة واضحة، عملوا كل ما باستطاعتهم ليثبطوا عزيمتي عن الانضمام لها. لقد تحدثوا بصراحة عن العيوب الإنسانية ومواطن الضعف في العالم الأرثوذكسي الحالي، عن الحواجز اللغوية والحضارية، عن القومية، عن التجزؤ المحزن للأرثوذكس في الشتات إلي “سلطات” متنوعة. و أكدوا لي أنها لن تكون بكاملها “سماءٌ على الأرض”. ومع ذلك، وفي قرارة نفسي، كنت أدرك كل الوقت أني قد رُصدت للأرثوذكسية. و كما يحدث لنا أحياناً قبل معرفتنا لتفاصيل شيء بوقت طويل، كنت قد اقتنعت أن “هذا الشيء هو لي”. كان كلما درست أكثر عن الأرثوذكسية، كلما راودني شعور أكثر بالألفة. قلت لنفسي، إن هذا ما عرفته وآمنت به في قلبي دائماً، لكني لم أسمعه قبلاً يصاغ بهذه الجودة. كان أصدقائي الأرثوذكسيين هم من اليونانيين أو من الروس، وفي الخمسينات، قلما سنحت لي فرصة حضور خدمة أرثوذكسية باللغة الإنجليزية، ما عدا أحياناً في اجتماعات عضوية القديس آلبين و القديس سيرجيوس. ومع ذلك، لم أجد الأرثوذكسية غريبة. شعرت أنها ليست دخيلة و”شرقية”، لكنها مجرد المسيحية ببساطة.

تقليـدٌ حـي: إن ما وجدت عندئذ في الإيمان والحياة الأرثوذكسية يُلخَّص بأفضل طريقة بكلمتين :”تقليد”و “امتلاء”، لقد وجدت إحساساً بتقليد حي، وباستمرارية إبداعية لكنيسة الرسل و الشهداء و الآباء، كما وجدت الكمال بالإيمان في الثالوث وفي التجسد كما لم أجده في أي مكان آخر. لكن وفي نفس الوقت، كان جلياً لي أنه لاستيعاب هذا التقليد و لعيش هذا الامتلاء في العالم المعاصر، فإن الأرثوذكسية بحاجة ماسة إلي المعونة من المسيحيين الغربيين.

إنني لن أتوقف عن الشعور بالامتنان نحو الطائفة الإنجليكانية التي بها ترعرعت، وبالامتنان نحو الصلوات التي انضممت إليها في وستمنستر – آبي، كوني طالب مدرسة على سبيل المثال، ونحو علاقاتي كطالب جامعة مع الفرنسيكان الإنجليكانيين، لكني كنت وما أزال مضطرباً بسبب الاختلافات المحيرة في وجهات النظر اللاهوتية داخل الكنيسة الإنجليزية. ودائماً سأعتبر قراري لأصبح أرثوذكسياً كتتويج وإنجاز لما هو أفضل في خبرتي الإنجليكانية: كتأكيد وليس كنفي. لكني لم أجد في الإنجليكانية الوحدة و الاستمرارية في التقليد اللتين كنت أتوق لهما.

ماذا عن روما إذن؟ أما توفر الاستمرارية والوحدة؟ أني و قبل اختياري للأرثوذكسية، فكرت عميقاً ولزمن طويل في الروم الكاثوليك كخيار. لكن الإدعاءات البابوية التي عرفت في المجمع الفاتيكاني الأول، شكلت صخرة عثرة خطيرة لي في الخمسينات. وكما رأيتها، لم تكن هذه هي طريقة فهم طبيعة الكنيسة على الأرض، سواء للقديس باسيليوس و القديس يوحنا الذهبي الفم، أو حتى للقديس أوغسطين، لقد فضلت المثال الأرثوذكسي للسوبورنوست sobornost أو المشاورة، الذي به ينظر للبابا كأول بين متساوين وكأخ أكبر، ومما يسعد الأرثوذكسيين أنه ومنذ المجمع الفاتيكاني الثاني، هذه هي الطريقة التي يرى بها كثير من الكاثوليك الكرسي البطرسي، وبالرغم من استمرارية وجود قضايا رئيسية للإيضاح، فإن الأرثوذكس و الكاثوليك هم أكثر قرباً اليوم عما كانوا منذ القرن الحادي عشر.

روحٌ وديعـــة: إن جانباً واحداً للاستمرارية الحية للتقليد الأرثوذكسي تركت وبالتحديد لديَّ انطباعاً، فعلى غرار الكنيسة الأولى قبل قسطنطين، فإن الكنيسة الأرثوذكسية اليوم وفي معظم الأماكن هي كنيسة مضطهدة ومعانية، كنيسة شهداء ومعترفين. مكسورة ومعانية في شكلها الخارجي، لا يوجد لدى الأرثوذكسية المعاصرة أي أساس للانتصار. لكن من أشهر ما يميزها روح وديعة و مخلية للنفس، أي نوع من الحب الرحيم والمفرغ للذات والذي يتم العثور عليه مرة بعد مرة في قصص الشهداء الحديثين. إن نفس الحب الرحيم يُرى في قديسين أرثوذكسيين معاصرين لم يعيشوا في ظل اضطهاد. فعلى سبيل المثال، وفي روسيا القرن التاسع عشر، القديس سيرافيم من ساروف و الأب يوحنا من كرونشتاد، أو القديس نيكتاريوس من بنتابوليس في يونان القرن العشرين. هذا هو واحد من أكثر جوانب الأرثوذكسية جاذبية. إن هناك شيء إضافي يربطني بالأرثوذكسية، وهو أسلوب الصلاة الذي يعرف بالهيزاخية hesychasm ، من اليونانية hesychia، وتعنى “الهدوء” أو السكون القلبي الداخلي. لقد تعرفت على هذا خلال إقامتي في جزيرة بطمس وفي جبل آثوس، ومن خلال قراءة المجموعة الضخمة من النصوص الروحية التي تدعى الفيلوكاليا.”أسكنوا و اعلموا أني أنا هو الله”(مزمور 46: 10) . هذا الهدوء أو hesychia يفهم، ليس فقط سلبياً كتوقف بين الكلمات، أو انقطاع مؤقت للحديث، بل إيجابياً كوضع تيقظ، انفتاح، سماع لله وخدمة للروح القدس.

إن الأرثوذكس و الكويكرز، ومهما كان الاختلاف في تقديرهم لخدمة القداس الإلهي، يتفقون في محبتهم للصمت. “حين تصلي”، يقول الكاتب الفنلندي الأرثوذكسي تيتو كولياندر: “عليك أنت أن تكون صامتاً”. و بكلمات النص الغربي القروسطي، كتاب المساكين في الروح، “إن الحقيقة الإلهية لا تتكون بالكلام بل بالصمت، بالبقاء داخل المعاناة الطويلة للقلب”. إنه، وليس من غير سبب، قد سمى القديس أغناطيوس الإنطاكي الرب “الكلمة التي خرجت من صمت”. إن هذا الصمت التأملي يوجد في قلب القداس الإلهي الأرثوذكسي، كبُعد داخل الكلمات والموسيقى والرمزية، وهذا هو نفس الصمت المستمع الإيجابي الذي تعززه صلاة يسوع.

لكثير من المسيحيين الغربيين، تبدو الأرثوذكسية ككنيسة محافظة متصلبة، تنظر دائماً إلي الماضي، لم يكن هذا هو انطباعي الشخصي عندما عرفت الكنيسة الأرثوذكسية أول مرة، وهو بالتأكيد ليس انطباعي اليوم وقد مضى ست وعشرون عاماً على كوني أرثوذكسياً. فجماعة القديسين الحاضرة في القداس الإلهي، التقليد الحي بكل كماله و استمراريته، الصمت المبدع للهيزاخية – هذه هي الأشياء الثلاثة التي تشدني بأقوى إخلاص للكنيسة الأرثوذكسية. وبالتأكيد، إن إدراك تلك الأشياء الثلاثة هو المطلوب في الغرب اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأملى أنه وخلال السنوات القادمة ستشهد الأرثوذكسية في بريطانيا لها بوضوح و فعالية أكبر، ليس بتنافس مع الطوائف المسيحية الأخرى، بل بتعاون متزايد معها.

نقلاً عن شبكة القديس سيرافيم ساروف الأرثوذكسية

التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة