عودة الوعي اللاهوتي

منذ سنوات حذَّر الأنبا شنودة الثالث من خطر “استخدام الآية الواحدة”، ولكن كما هو واضح من كتاب “بدع حديثة”، وقع هو نفسه في نفس الفخ الذي حذَّر الآخرين منه.

عبر ما يربو على ربع قرن من الزمان أتقن جيلٌ حشد الإعتراضات بالآيات، أو إبراز فكرة معينة تبدو برَّاقة سليمة رائعة دون أدنى محاولة ربط هذه الفكرة

أولاً: بثوابت الأرثوذكسية، تلك التي أقرها الإيمان النيقاوي وعبَّر عنها قانون الإيمان بكلمات قاطعة.

ثانياً: بما حدث من إلغاءٍ تام للتعليم الشامل الذي يضم الخلق والخلاص وتدبير تجسد الإبن وسكنى الروح القدس وقيامة الجسد .. يبدو للبعض أن الاعتراض من أجل الإعتراض هو الأرثوذكسية، وهذا في حد ذاته يكشف كثيراً عن سياق أفكار عامة غامضة، وذلك مثل الاعتراض بنص واضح: “لا يكن لك آلهة أخرى أمامي”؛ بغرض إلغاء الشركة في الطبيعة الإلهية .. وهو إلغاء يحذف عطية التبني والحياة الأبدية وسكنى الروح القدس.

الفكرة الواضحة في عقل المعترض هي الإعتراض فقط، ولو بسوء استخدام نصوص الكتاب المقدس، أو مجرد تصور شخصي، ونعرض هنا مثالاً عن ثقافة جيل فقد الوعي اللاهوتي – تعليقاً على مقالنا: “حبل طابور، والجلجثة والقبر – وهو اعتراض يسجل صاحبه فكرته (نُقِلت حرفياً) ظناً أنها صائبة:

“إذا كان التجديد قد حدث في إنسانية يسوع كحدث تراكمي يبلغ قمته بالصليب والقيامة، أفهل يعني ذلك أن الهيكل البيولوجي (اللحم والدم) قد تحوَّل وتغيَّر إلى الطبيعة الروحية الجديدة، وبالتالي لم يترك الرب بقيامته إلَّا قبراً فارغاً؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا يترك القديسون حينما ينتقلون إلى السماء جثثاً يعتورها الفساد الطبيعي والتحلل الرمي؟ ألا يعني ذلك أن موت المسيح وقيامته كانا خاصين به؟ وحينئذ ألا يكون مفهوم الخلاص قد ضُرب في مقتل؛ إذ قد فقدنا اشتراكنا معه موتاً وقيامة؟”.

عودة الوعي اللاهوتي ليس فقط لصاحب هذا الإعتراض، بل لجيل فقد الرؤيا الشاملة، وهي أن بداية التجديد كانت في “البِكر” في “رأس الجسد” (كولو 1: 28) الذي تحول جسده الى “جسد مجده” (فيلبي 3: 21) لكي يحوِّلنا نحن فيه؛ لأن التحول هو خاص بالانسانية. وصاحب الاعتراض لم يدرس رسالة رومية الإصحاح الثامن، حيث يؤكد رسول المسيح أن الخليقة التي “أُخضعت للبطل”… ستُعتق من عبودية الفساد” (8 : 21).

الآن في زماننا هذا “كل الخليقة تئن”، وفي حالة مخاض الولادة. أمَّا نحن الذين آمنا بالمسيح “الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا” (8 : 22)، فالجسد نال العربون فقط.

وعندما يقول رسول المسيح: “هوذا سر أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت” (1كو 1 : 51 – 53).

الثوابت هي خاتمة قانون الإيمان، وهي: “ننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي”. ويضاف إلى هذا أننا لا نزال كلنا – حتى رسول الرب بولس – في مخاض سوف ينتهي يوم القيامة، ولذلك يقول إننا نحن، وهو معنا “ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء” (فيلبي 3: 20 – 21). لقد غاب من الاعتراض الثوابت الأرثوذكسية وفي مقدمتها قيامة الأموات، كل الأموات.

غاب من الاعتراض أن تجديد ناسوت المسيح يُمنح في السرائر، في المعمودية والميرون والافخارستيا، وهذه أهم ثوابت الأرثوذكسية.

غاب من الاعتراض أيضاً أن “اللحم والدم”، هو أبلغ تعبير عن التجسد الإلهي: “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو (يسوع) أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت ..” (عب 2: 14). فالتجسد ليس قاصراً على الرب من أجل الرب، بل لأن أحد الثوابت “هذا الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم … وأيضاً يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه” (قانون الإيمان).

وهكذا عندما نحاصر حياة الرب بهذا الشكل، فإننا ننسى أن القيامة هي لنا؛ لأن الصلب كان لنا، كما أن التجسد كان لنا “نحن البشر” ولأجلنا.

القبر الفارغ حسب بشارة الملائكة للنسوة هو هزيمة الموت، وليس مجرد قبرٍ فارغٍ، هو فقدان الموت لسلطانه؛ لأن الموت جاء باختيار الرب الحر (يوحنا 10: 18). ولأن أهم ثوابت الأرثوذكسية هي: “بالموت داس الموت”، فقد قبل الموت في جسده لكي يعطي لهذا الجسد حياةً غالبة الموت. لقد كنا أمواتاً بالخطايا، ولكن “الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح .. وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع” (افسس 2: 5 – 6). لكن هذا كله لا يلغي ما أكَّده رسول المسيح عن قيامة الأموات؛ لأننا لم نأخذ بعد “فداء الجسد” من التحلل والفساد والعودة إلى تراب الأرض إلى أن يأتي يسوع في مجده، ولذلك يقول رسول المسيح: “لا أريد أيها الأخوة أن تجهلوا من جهة الراقدين … لأننا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله معه .. لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس الملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً ..” (أفسس 4: 13 – 16).

ولاحظ دقة تعبير الرسول: “الأموات في المسيح”، هؤلاء مثل أنطونيوس الكبير وأثناسيوس وكيرلس وكل الآباء والشهداء والذين كان لنا شرف معاينة شهادتهم في أيامنا في الإسكندرية والفكرية والكشح وماسبيرو وقوافل شهداء أم الشهداء، لن تقف عند محطة واحدة في زمان واحد .. ترى هل يؤمن صاحب الإعتراض بأن يسوع قد دخل إلى مجده لأنه وُضِع قليلاً عن الملائكة لكي يحررنا نحن (راجع عب 2 : 9) مع حديث الرب مع تلميذي عمواس لوقا 24 : 26 حيث يقول الرب نفسه إنه “ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل الى مجده”؟ لو أن صاحب هذه الأسئلة الاعتراضية فكَّر ملياً في أن الخلاص يسير حسب التدبير من الولادة الجديدة ومثالها، ولادة يسوع نفسه من العذراء والروح القدس، وهي أساس ولادتنا من الماء والروح، وهي – ما سبق وذكرناه عدة مرات – نقل الجنس البشري من آدم الى المسيح آدم الأخير، وأن مسحته هي مسحتنا نحن، وأن موته هو تحرير انسانيتنا فيه هو أولاً لكي نتحرر نحن، وأن قيامته هي قيامتنا نحن التي لن تعطى إلَّا للكل في يوم القيامة أقول لو كان صاحب الاعتراض فكَّر ملياً في خطوات تدبير الخلاص، لَمَا انتهى إلى ما سطَّره.

ومع التدبير تسير الليتورجيا معلنةً كل الثوابت التي نعترف بها في صلوات التقدمة (الأنافورا) لكي نصل إلى استدعاء الروح القدس المحيي لكي يعطي لنا “جسد ودم عمانوئيل الهنا”.

خطوات عملية لإسترداد الوعي اللاهوتي:

أولاً: دراسة شاملة ودقيقة لكتاب “تجسد الكلمة” للقديس أثناسيوس – “المسيح واحد” للقديس كيرلس السكندري – “المقالات الأربع ضد الأريوسيين”، وإعادة ربط الشرح اللاهوتي بالصلوات الليتورجية.

ثانياً: “نحن نمارس ما نصلي ونصلي ما نمارسه”، وهي أقرب ترجمة لرد القديس إيرينئوس على الغنوسيين، ولذلك؛ ولأننا نصلِّي على الراقدين – أرجو قراءة – ويا ليت إعادة نشر كتاب أستاذنا سمعان ساليدس: القول اليقين في الصلاة على الراقدين)، فإننا نعلن إيماننا بالقيامة الآتية، وبشركتنا معهم في ذات الحياة الواحدة التي نعبِّر عنها، ليس فقط في قانون الإيمان، بل أيضاً في صلوات المجمع وما بعد المجمع في القداس الإلهي.

أتمنى للجميع – قبل الاعتراض – الدراسة، واسترداد الوعي اللاهوتي الشامل بكل العقائد قبل تقطيع الايمان إلى أفكار متباعدة لا علاقة بينها ..

ولو قال أحدٌ ما – مهما كان – إننا نتناول الناسوت فقط، فهو في حقيقة الأمر لا يؤمن بالتجسد إلَّا كفكرة في عقله، ولم يضع التجسد في مكانه الصحيح وهو أن يسوع صار بالتجسد رأس الجسد الكنيسة .. البكر بين أخوة كثيرين .. المتقدم علينا في كل شيء فهو البداءة (كولوسي 1: 18)؛ لأننا – كما قال رسول الرب يسوع – قد متنا “وحياتنا مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا؛ فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد” (كولوسي 3 : 3-4).

***   ***  ***  ***

– يا يسوع لقد وهبت حياتك لنا

– بهذه الهبة نقدم حياتنا الترابية لك

– بهذه الهبة ننال الحياة الأبدية فيك وبك

– نُصلب معك ونموت معك لكي نقوم معك

– وقيامتنا عربون أخذناه سيكمل في يوم مجدك، يوم قيامتنا بالجسد.

د. جورج حبيب بباوي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة