التفكير والتكفير، والانقضاض على النعمة، ومجد الإنسان في يسوع المسيح ربُّ المجد

لا أدري ماذا يدعو بعض الذين يجاهرون بالانتماء للمسيح والمسيحية إلى تبني منهج التكفيريين وجماعات الإرهاب؟

في مقال له على موقع الأقباط متحدون أورد فيه الأخ مينا كامل أسعد لائحة باتهامات زعم أنها تطالنا، وأننا مدانون بها، وذلك دون أن يقدم دليلاً واحداً يؤكد به هذه الاتهامات. ونحن لن نتناول هذه الاتهامات في هذا المقال فهذا ما لا يتسع له المجال، ولكننا سوف نتعرض لبعضها فقط.

لا شك لدينا في أن الاختلاف على تفسيرٍ ما، أو حتى الخطأ التاريخي -طالما لا يمس جوهر الإيمان- هو حقٌ لكل مسيحي يسعى نحو فهم ناضج، أمَّا حشد الاتهامات الكاذبة، فليس إلَّا عمل جماعات الإرهاب صاحبة منهج التكفير. تُرى لماذا دخلت العدوى إلى الكنيسة وأصبح من يكتب دون إبداء الأسف بأنه يوجد “مطاريد” للكنيسة، ويكتب كما لو كان ما يكتبه هذا خبراً عادياً ناسياً أن الكنيسة هي جماعة الخطاة المدعوين إلى حياة القداسة، وأنها تمدح “أمانة اللص اليمين” يوم الصلبوت وتصرخ مع كل طلبة: “يا رب أرحم”؟

يكتب للإثارة فقط: “الإنسان أقدس من مياه المعمودية”، ولم تكن الإشارة إلى الإنسان؛ لأن الحديث عن مياه المعمودية هو حديثٌ يخص المؤمنين فقط، وحسب طقس كنيستنا، يصلي الكاهن بعد أن ينتهي من خدمة سر المعمودية صلاةً لتسريح الماء، ويقول: “أيها السيد الرب ضابط الكل … أنت يا سيدنا جعلت هذا الماء طاهراً” بنعمة مسيحك وحلول روحك القدوس عليه، وصار لعبيدك الذين تعمدوا فيه حميماً للميلاد الجديد … وأضاءوا بنور لاهوتك. نسأل ونتنضرع إليك أيها الصالح محب البشر أن تنقل هذا الماء إلى طبعه الأول ليُرد إلى الأرض مرة أخرى مثل كل مرة …”.

فالماء يعود ماءً كما كان، لكن الذي نال المعمودية يظل ابناً لله إلى الأبد، وحتى إن ارتد لا تُعاد معموديته -كما هو معروفٌ- فهو أعظم من المعمودية وأقدس منها لأنها رغم حلول الروح القدس عليها وتحول هذه المياه إلى مياه حيَّة تلد حياةً جديدةً لأنها تعمل مع روح الله، إلَّا أنها لا تحفظ هذه النعمة، بينما نعمة البنوة، نعمةٌ أبدية.

وحتى في التقديس نفسه، نحن نشترك في قداسة الله نفسه حسب كلمات رسول الرب في العبرانيين: “لكي نشترك في قداسته” (عب 12: 10). وليس لدى الثالوث مستويات أعظم وأخرى أقل في القداسة، بل قداسة واحدة للثالوث الواحد القدوس، تُوهب لنا بالروح القدس، ولذلك يقول القديس أثناسيوس:

“القوة الفاعلة والعطية التي بها يقدس ويضيء، ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة، وهي التي يقال عنها إنها تنبثق من الآب لأنها من الكلمة … والابن يرسل الروح …” (الرسالة الأولى إلى سرابيون 1: 21).

“فهو روح القداسة والتجديد، ويدعى هكذا لأن بولس يكتب: “لكن تقدستم، بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1 كور 6: 11)” (المرجع السابق).

“فهو خاصٌ بلاهوت الآب، والذي فيه يجعل الكلمة الأشياءَ المخلوقةَ تشارك في الطبيعة الإلهية” (المرجع السابق 1: 25).

“وأيضاً لأن النعمة التي تُعطى في الثالوث من الآب بالابن في الروح القدس، وكما أن النعمة المعطاة هي من الآب بالابن، هكذا فإنه لا يكون لنا شركة في العطية إلا في الروح القدس لأننا حينما نشترك فيه (الروح) تكون لنا محبة الآب ونعمة وشركة الروح نفسه” (المرجع السابق 1: 31).

ولكن عندما تهب رياح البُغضة التي تطفئ نور العقل، وتثبِّت في أي إنسان قانون وشريعة الغرائز … الانتقام والبحث عن أخطاء واتهامات، فإن التكفير يكون هو المنهج السائد، ولذلك علينا أن نسأل حسب فهم الناضجين في المحبة الإلهية:

أولاً: لو كانت مياه المعمودية أقدس من الإنسان، لوجب على رسول المسيح أن يقول إن المياه صارت هيكلاً للروح القدس، ولا يمكن أن تعود كمياه مخلوقة (طبعها الأول)، ولكن الإنسان المسيحي صار “مكان”، أو “منزل سكنى الثالوث حسب قول الرب يسوع نفسه: “إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23).

ثانياً: لو كانت مياه المعمودية أقدس من الإنسان، لَمَا وضَعت الكنيسةُ صلاةً لتسريح المياه، لكن الإنسان الذي تقدس بالمعمودية وبمسحة الميرون لا يمكن أن يعود إلى طبعه الأول، أي يتحول إلى تراب، ويبقى تراباً، بل سوف يلبس المائت عدم المائت (1 كور 15: 53).

وعندما يقول رسول الرب إن عناصر الأرض كلها سوف تنحل محترقة بنار (2 بط 3: 10)، فهي لن تدخل بالطبع الأول في الخلق الجديد، أي لن تكون كما كانت، بل في السماء الجديدة والأرض الجديدة، لدينا كونٌ آخر هو الكون الذي يشترك مع الإنسان في القيامة، وهو غير معلن بشكلٍ كامل (رو 8: 21)؛ لأن الخليقة سوف تُعتق من الفساد.

لكن بقايا العصر العثماني، وعصر المماليك حيث الأغا والباش أغا يجلس على كرسيه يشوي الفلاحين بالضرائب وبالسوط، فهو عصرٌ يجعل السبت أقدس من الإنسان، ويعود بنا إلى قاعدة الشريعة القديمة: “الإنسان خُلِقَ من أجل السبت”.

المذبح عرش الثالوث

حسب صلوات تكريس الكنائس، يُقدس المذبح بزيت أو مسحة الميرون، وحسب الترتيب صار تقديس “لوح العهد” تحسُّباً للهجوم على الكنائس وحرقها وتدميرها، لكننا لم نجد في أي صلاة من صلوات التكريس هذه، مثيلٌ لِما يقال بشأن الإنسان الذي ينال المعمودية وسر الميرون:

  • “مسحة عربون ملكوت السموات”.
  • “دُهن شركة الحياة الأبدية غير المائته”.

وذلك لأن كل المذابح والألواح وغيرها من أدوات الخدمة، سوف تصبحُ هباءً في يوم الدينونة. لأن المذبح من رخام كان أو من خشب أو حتى ذهب، لن يقوم في يوم الدينونة مع المسيح في مجد المسيح؛ لأن أورشليم الجديدة ليس فيها هيكلاً “لأن الرب الإله القدير والحمل هو هيكلها” (رؤ 21: 22).

وتقديس الأيقونات ترتيب خاص بالزمان الحاضر؛ لأن الذين نراهم في الأيقونات سوف يقومون في مجد المسيح بمجد إلوهيته (فيلبي 3: 21). لأن أجسادهم سوف تستنير بنور الرب حسب كلمات صلاة القسمة: “لنضئ بشكلك المحيي”.

لكننا نجتاز الآن أزمةً روحيةً كبرى؛ إذ لم يعد لحوار المحبة مكاناً، كما نجتاز محنةً قانونيةً؛ إذ غاب القانون الكنسي، بل نعيش محنةً أكبر عرفناها يوم صدور قرار منع كتاب “أقوال مضيئة”، وهو أكبر أنثولوجيا لآباء الكنيسة الجامعة أثناسيوس وكيرلس وذهبي الفم، وغيرهم.

نحن نعيش في زمان تصرخ فيه أصوات باسم “الشريعة”، تحاول إعادة الإنسان إلى ما كان سائداً في القرون الأولى، والأمل ألا تدخل هذه العدوى إلى الكنيسة، فتصبح المباني وأدوات الخدمة كلها أعظم وأقدس من الإنسان؛ وكأن الإنسان خُلِقَ من أجل هذه، ولم تُخلق هذه من أجل الإنسان.

الانقضاض لتدمير مجد الإنسان في يسوع المسيح رب المجد

عندما يصاغ اتهامٌ بأن الإنسان أقدس من مياه المعمودية، فإن الوعي ينتقل من النعمة الواحدة إلى المفاضلة والمقارنة، ولكن لا توجد مقارنة بالمرة بين ما يوهب لأدوات الخدمة أياً كانت، وما يوهب للإنسان نفسه لأن تجسد الله الكلمة، أدخل الإنسان في شركة مجد الثالوث القدوس على النحو الذي دافع عنه أثناسيوس العظيم في رسائله إلى سرابيون.

إن كل ما لدينا له يهدف إلى تحرير الإنسان وتقديسه وتمجيده ورده إلى الصورة الإلهية، ولذلك كان من العجب حقاً أن يصاغ اتهام آخر بأن البشر أقانيم ولهم طبيعة واحدة، كأن الذي كتب هذا الكلام لم يقرأ رو 5: 12 وما بعدها عن الطبيعة الواحدة التي جعلت الكل يقع في أسر الموت والخطية. وكأن الذي كتب هذا الكلام نسي أو لا يعرف أن كلمة أقنوم السريانية الأصل تترجم إلى شخص في العربية والإنجليزية، وهي في أصلها دعوة لأن يكون الإنسان صورة الله، ولكن يبدو أن المطلوب الآن هو تدمير مجد الإنسان في يسوع المسيح رب المجد؛ حتى تسود العبودية والتسلط باسم الله، ولنا عودة إلى هذا الاتهام الأجوف الذي يكشف عن معدن صاحبه.

الدكتور جورج حبيب بباوي

التعليقات

2 تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة