الـ 40 يوماً والـ 80 يوماً والعودة إلى الشريعة

رداً على رسالة القارئ الأستاذ جرجس

سعدت كثيراً، بل ابتسمت؛ لأنك تركت الهذيان القائل بأن الأنثى تُولد بخطية أكبر من خطية الذكر. وهو الهذيان الوافد إلينا من ثقافة تحتقر الجسد، بل والإنسان عموماً. ووصل الاحتقار إلى كراهية جعلت من العنف الدموي حلاً لكل المشاكل المتراكمة عندنا طوال قرون، هذه المشاكل لا تعود إلى عصر الرئيس السابق حسني مبارك، ولا حتى إلى عصر الرئيس جمال عبد الناصر، بل هي ثقافة مصرية جمعت بين المسيحية والإسلام وبقايا الفرعونية (كديانة لا حضارة).

وعندما تنحدر كرامة الإنسان إلى أدنى درجة، يصبح القتل سهلاً، ويطفو العدوان على سطح الوعي، ويتحول إلى هذيان تراه في حرق الكنائس وقطع رؤوس الأبرياء، وخطف القاصرات.

في هذه النظرة الدونية يجد المجتمع الإنساني كله، وليس المصري فقط، أن الشريعة هي الحصن والحامي الوحيد للعلاقات الإنسانية. الشريعة مطلب أساسي جداً في حماية العلاقات، ولكنها لا تزرع الاحترام والوقار في قلوب البشر. تأمَّل: أنت لا تقتل خوفاً من العقاب، ولكن هذا لا يمحو العداوة، ولا يجعلك تحب الآخر كما تحب نفسك. ثم تأمل كيف تتراجع العلاقات الإنسانية تحت وطأة الخوف. إن جندياً ألمانياً واحداً كان يقود مئات من المقبوض عليهم للموت، بينما لو أمسك عشرة أو عشرين منهم بهذا الجندي لتغيَّر الموقف، ولكن الخوف هو الذي ساق “الأغنام” إلى الذبح.

ثم تأمل تطور العلاقات الإنسانية: إذا كانت أعمال الخير تمحو الخطايا، هنا يصبح عمل الخير من أجل محو الخطايا هو العمى الروحي الحقيقي؛ لأن الإنسان لا يطلب عمل الخير من أجل الخير، بل لكي يتفادى عقاب الشر والخطية. وقد تجد في المجتمع من يدافع عن هذا بكل شراسة؛ لأن عمل الخير لمحو السيئات يعطي نوعاً من السلام للضمير، ولكن فاعل الخير بغرض محو السيئات لن يعرف طريق المحبة الحقيقية لأن المحبة ترفع الإنسان إلى سلوك إلهي وهو العطاء المتجرد الذي لا يبحث عن أسباب للعطاء، ولا يرجو مكافأة، ولذلك قال معلم الحق، الرب يسوع: “أن نُقرض من يحتاج دون أن ننتظر أن يرد القرض” (راجع لو 6: 35).

أعود إلى تطبيق أحكام شريعة العهد القديم، وبشكل محدد تلك التي منعت الإنسان من الصلاة والعبادة بسبب إفرازات الدم (سبق ونشر الموقع دراسة مطولة عن تطور النظرة إلى التطهيرات الجسدية، يمكن أن تتطلع عليها)، ولكن السؤال الحقيقي هو لماذا يعتبر الأنقياء -وهم عادة جمهور واسع الانتشار عندنا- أن هذا “فطر”؟!!!

هنيئاً لك يا أخ جرجس عبورك نفق هذيان نجاسة الجسد، ولكن الفطر الذي يمنع من التناول وممارسة السرائر، له ذات الجوهر، أي ينتمي إلى ذات قاعدة التحريم، وهي “الموانع الشرعية”، بينما في ديانة الإله المتجسد، الموانع ليست محددة بالشريعة، بل هي: الارتداد عن الإيمان – الهرطقة – الانغماس في الشرور والخطايا، فقط لا غير. أما ما يخص الجسد من إفرازات وضعها الخالق، فهي ليست موانع. طبعاً الاستعداد الشخصي مسألة شخصية لا يحكمها قانون، بل تُراجَع دائماً مع أب الاعتراف.

وهذيان من لا يفهم له جذور تعود إلى فقدان الرؤيا الأرثوذكسية للإنسان؛ لأن الإنسان في الأرثوذكسية ليس

فرداً،

ولا هو

مجرد إنسان،

بل هو إنسان الشركة في عضوية الجسد الواحد، هذا هو ما سقط من الهوية، أي صورة الله ومثاله (تك 1: 26)، فهو أعظم من كل الكائنات التي على الأرض، بل حسب كلمات المزمور كل شيء وُضِع تحت قدميه (مز 8 كله). وهذا ما لا ترضى به ثقافة وحضارة النظرة الدونية.

وعندما يصلي الكاهن لكي تعود مياه المعمودية إلى طبعها الأول إلى الأرض، فهو في صلاة تسريح المياه، يقطع كل طريق على هذيان الجهل؛ لأن الإنسان لا يعود إلى الطبع الأول في المسيح، بل هو ينمو نحو مجد المسيح نفسه، بل الكون كله سوف ينحل، حتى الكنائس بكل ما فيها من جمال، لن تنال القيامة المجيدة، بل الإنسان، وهنا ليس الإنسان كفرد، ولا هو الإنسان لمجرد أنه إنسان، بل لأنه عضو في جسد المسيح الكنيسة، والكنيسة والمسيح الجسد الواحد موضوع يزعج الذين ينكرون حرية الإنسان في المسيح.

وكما ذكرت، كانت النظرة القديمة ترى أن الأم تنزف دماً أكثر بولادة الأنثى –راجع المقال نفسه- لكن رغم احترامي الشديد لمحاولة إضفاء مسحة تقوى على رقم 40 إلاَّ أن الرموز هي إشارات للواقع نفسه، وهو اتحادنا الأبدي بالمسيح.

لقد ظل موضوع مطاردة الأب متى المسكين يشغل قلبي طوال 30 عاماً، أحاول أن أعرف الأسباب الحقيقية، وهي ليست العداوة والحسد، فهي لا تصلح للبحث -أي عداوة وحسد الذين كانوا يهاجمونه- وكان السؤال الوحيد الحقيقي هو: ماذا حدث لاتحادنا بالمسيح؟ ولماذا غاب هذا الموضوع غياباً كاملاً عن مقالاتهم في الجرائد والكتب القبطية طوال 40 عاماً، في الوقت الذي احتل فيه هذا الموضوع أحد المراكز الأساسية في كتب الأب متى المسكين ومقالاته؟ والجواب معروف لنا جميعاً: إن الاتحاد بالمسيح، أي اتحاد كل مؤمن بالمسيح يؤدي إلى:

  1. أن كرامة كل شخص في الكنيسة مصدرها يسوع المسيح رب المجد.
  2. تحجيم السلطان المفرط الذي انتزعه الإكليروس من الله نفسه، سلطان الحرمان من الشركة دون وجه حق.
  3. حرية كل شخص في التعبير، طالما أنه لا يهدم هذا الاتحاد.
  4. محاصرة ما صار يُعرف بـ “الحرمان”؛ لأن الحرمان قرار يمس الرأس نفسه، أي يسوع المسيح رأس الكنيسة.

ولكن أنت تعرف ما آلت إليه الأمور.

أخيراً يا أخي، لا يوجد رمز أو إشارة إلاَّ وهي تخدم ذلك الهدف الإلهي الذي لأجله تجسد الابن ومات وقام وسكب علينا روح الآب. نحن نمتنع عن التناول لأسباب شخصية، ولكن أمورنا الشخصية هذه تُراجَع مع أب الاعتراف. وحتى ما يُعرف باسم “قوانين التوبة”، كانت تسمى في العصر الوسيط “دواء لعلاج النفس وإعادة الإنسان إلى الشركة”، ولكن تأمل ماذا حدث للذين قُطِعوا دون ذنب من الشركة. إن الذي قطعهم هو ذاته الذي قٌطِعَ، وليس العضو البريء.

الرب معك

دكتور

جورج حبيب بباوي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة