التجسد ودعوة الإلحاد في مصر – 2

الإنسان يُولد عارياً:

يُولد الإنسانُ عارياً، ليس فقط جسدياً، بل عقلياً (روحياً). وهو يأخذ اللغة والمعرفة من الأسرة – المدرسة – المجتمع. لم تكن قصة “عري” آدم في التكوين قصة قديمة، بل هي قصة الواقع الإنساني نفسه، ولم تكن شجرة المعرفة -أي معرفة الخير والشر- قصة قديمة، بل نمت هذه الشجرة وصار في كل عقل أكثر من شجرة لمعرفة الخير والشر. فالشجرة تنمو، ومكتبات الجامعات مملوءة بالأشجار، ومعرفة الخير والشر ملأت كل مكان في الكون.

ما يوصف “بالغيبيات” هو الفكر المجرد المتحجِّر الذي وقف عند أطلال الماضي كعادة قدامى شعراء العربية. ونحن أمام فرعين للمعرفة كلاهما مدوَّن في الحضارات القديمة. فرع الدعوة إلى التوحيد، وفرع الوثنية. ووجهة الاختلاف بينهما هي أيهما سبق الآخر؟ وهل هما متلازمان، وهل ولدا معاً من ذات رحم الحياة العارية التي تبحث عن حدود تشبه “الخريطة” التي تحدد الوجود الإنساني، فترسم معالم الطريق الإنساني؟

من أجل تحديد الوجود الإنساني، خَلَقَ الإنسانُ:

– تقسيم الزمان إلى أيام وأسابيع وشهور.

– وخلق مدونات التاريخ.

– وخلق الأساطير، والأسطورة غير الخرافة([1]) لأن الأسطورة Myth هي محاولة تاريخية وعلمية لتحديد الحقائق وجمعها في شكل قصة. وتلك هي محاولة الإنسان أن لا يكون عارياً.

الله قصة الإنسان:

لم تكن الوثنية في كل صورها سوى ذلك المزيج من رغبة الإنسان في اكتشاف الله، وإسقاط ذاته على الله Self – Projection نفسه، وتعدُّد جوانب الحياة النفسية في الإنسان خَلَق تعدد الآلهة. لكن الإنسان لا يرى في الولادة من الأب والأم السبب الحقيقي للوجود؛ لأن التسلسل البيولوجي، أي الولادة من الآباء والأمهات لا تعطي أي معنى ولا تشرح سبب وجودنا. لذلك جاء البحث عن خالق الأب والأم وعن خالق الكون وعن مصير الحياة بكل صورها؛ لأن القوة التي تضرب الذكاء بعنف شديد هي قوة الموت، وهي من العنف بحيث أنها تصطدم ليس بالشعور بالوجود، بل تصطدم بكل ما يمكن أن يوصف بالحياة كما قال شعراء قدامى وكما قال الخيام: لماذا جئت؟ أين المفر؟ فالحياة لا يمكن أن تنتهي بالموت، والبحث عن البقاء لا يمكن فصله عن البحث عن الخالق، والإجابات عبر التاريخ عن إله أو حتى آلهة، أعطت الإنسان قوة للبقاء، ودفعته للاستمرار في الحياة، ولم تدفعه إلى الانتحار (سوى بعض الذين صُدِموا في سبب وجودهم وعانوا العار والذل)، بل حتى هؤلاء الذين يُقْدِمون على الموت، هم بكل يقين مهما كان اليأس ومهما كانت الصدمات القاسية، يؤكدون لنا أن الحياة بدون معنى تساوي الموت، وأن الموت ليس إجابةً عقلانيةً، بل نهاية أليمة غير عقلانية.

هكذا جاء الإيمان بالخالق بحث عن معنى للحياة، وعن غاية أعظم تعلو على ما تقدمه الحياة البيولوجية من سبب للوجود، وهو زواج الأب والأم، إلى خالقٍ خَلَقَ حتى الأب والأم؛ لكي يرتفع الوجود الإنسان من محض وجود بيولوجي إلى غايةٍ أعظم وأكبر.

هل يسوع كتاب الإنسان؟

من أفدح أخطاء العصر الوسيط أنْ تحوَّلَ الإنجيل – البشارة إلى كتاب، وعندما ظهرت المطابع لتطبع الكتاب المقدس بعهديه، تحول يسوعُ إلى كتاب، وأصبحت قراءة الأناجيل والتفاسير هي دنيا الحروف، والكلمات بحر الكلمات الذي أغرقت به المطابع (وهي من أعظم الإختراعات الإنسانية) العقول في بحر كلمات ومصطلحات صارت تملأ الفراغ العقلي بفراغٍ آخر، وهنا مأساة محاولة الإنسان أن يملأ فراغاً بفراغ آخر، أي فراغ الحياة العقلية والتي تبحث عن رداءٍ، فلا تجد في المصطلحات سوى كلمات وعبارات تضيف المزيد من العراء. والسبب هو تحوُّل الشخص إلى كلمات. ولكن يسوع لم يأت بكتابٍ، بل بحياة (1 يوحنا 1: 1 – 3). وهنا التناقض الغريب، أن نقدم كلمات تقول لنا إن يسوع حياةٌ من عند الآب أُعلِنت، وإن العهد الجديد هو شهادات عن هذه الحياة. وها هو يسوع لا يضع نظريةً واحدةً، ولا يقدم ولا حتى فكرةً واحدةً، بل يقدم:

– الأمثال التي تشغل 90% من كل العبارات التي نطقها.

– والباقي 10% هو عن حياته الشخصية.

وقد شعر يوحنا الإنجيلي أن ما لدى الكنيسة من وثائق وشهادات لم تدخل إلى أعماق العلاقة الكيانية بين الآب والابن، فكتب الإنجيل لكي يؤكد لنا هذه العلاقة الكيانية. ولم تكن الأناجيل الثلاثة: متى – مرقص – لوقا هي أناجيل تاريخية فقط كما جرى الاصطلاح المعاصر، بل هي بشارة تنزع سلطان العهد الأول بكل ما فيه، وهو ما اقتضى الرسول بولس أن يكتب بحثاً مطولاً باسم “الرسالة إلى العبرانيين” ليقول فيه إن كل شيء قد انتهى، وإن القديم كَبُرَ وشاخ ولا وجود له (عب 8: 23) وإننا أمام الجديد، لأن القديم هو ظِلٌّ ولأن الجديد هو النور.

من الأمثال نرى كيف يملك الله في حياة البشر في مشاهد من الحياة اليومية: الزارع – الابن الضال – الغني ولعازر – الفريسي والعشار – السامري الصالح .. وكل هذه الأمثال لا علاقة لها بالعهد الأول؛ لأن العهد الأول تحوَّل في الحياة -بسبب تحوُّل الإنسان نفسه- إلى قيد، وأحب العبيدُ القيدَ، ووجدوا في الشريعة وفي الطقوس ما يؤكد العبودية، ولكن يسوع جاء لكي يقول: “ملكوت الله داخلكم” (لوقا 17: 21)، وفي نصٍ آخر شاء كاتبه أن ينسبه إلى الرب نفسه لكي يكتسب مصداقية قال: “لو كان ملكوت الله في السماء، فان الطيور سوف تسبقكم إليه” لأن الطيور تطير في السماء. ولكن تحول المُلك الإلهي إلى القلب كان “النقلة” الخطيرة التي جاءت بالجديد، وهي عودة الإنسان إلى الإنسان، إلى ما في حياته هو، إلى رؤية الله في القلب، ولذلك قال يسوع: “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (متى 5: 8). وحتى في عهد الظلال، كان أشعياء يسكن في وسط شعب “نجس الشفتين”، وهو تعبير عبراني جيد، يؤكد أنه شعب يجدِّفُ على الله ولا يشكره، ولم يكن أشعياء يشعر بأنه أفضل من الشعب، ومع ذلك فقد رأى الله وسمع تسبيح القوات السماوية (أش ص 6). ونقاوة القلب لم تعد النقاوة التي يطلبها الطقس القديم، بل نقاء الرؤيا، أي تلك التي لا تُمزَج فيها القدرات العقلية وتخلطها، هي “العين النيرة” التي تجعل الجسد كله في وحدة واحدة منسجمة مع الروح (متى 6: 22-23)، بينما القلب المنقسم هو القلب غير النقي.

وجاء يسوع ليقول إنه جاء لكي يعطي الملكوت لمن يريد دون أن يكون لديه مؤهلات، ولم يكن غريباً أن يقدم العهد الجديد شهادتين:

الأولى: أن تلاميذ يسوع كانوا من عامة الناس وليس من حكماء الشريعة.

الثانية: أنه هو أي يسوع مُعلِن الملكوت بالمحبة وبصلاح الله الذي لا يميِّز بين الصالح والشرير، لأنه يعطي خيرات الكون للكل .. برهان كوني هو الشمس والمطر (راجع متى 5: 45).

وكلتا الشهادتين هما معاً في شخص يسوع نفسه، فهو لم يكن من سبط لاوي. بل من سبط يهوذا الذي لم يخدم أحد منه في العهد الأول (عب 7: 14)، هو نفسه لم يميز في معاملته بالمرة بين تلميذ يتبعه، وزانية كادت ترجم (يوحنا 8: 1 – 11) كلاهما في حاجة إلى رحمة الله ومحبته.

هكذا نقل يسوع الإيمان بالله إلى الحياة اليومية لا إلى ما وراء الطبيعة. وقد قرأت أخيراً في إحدى الصحف العربية أن سبب رفض المسيحية هو الآب والابن والروح القدس، باعتبارها أسماء أُخذت من الحياة الإنسانية، وانتابتني موجة من الضحك؛ لأننا لا يمكن أن نتكلم عن الله نفسه إلَّا بلغةٍ بشرية، وحتى الإيمان بالتنزيل جاء بلغة بشرية سواء كان هي العبرانية أو العربية أو اليونانية. فكيف يمكن لنا أن نخاطب حتى بعضنا البعض عن الله إلَّا بلغة بشرية ..!!

مأساة الإنسان أنه كان يبحث عن ما هو إلهي، فوجد ما هو إنساني، فرفض ما هو إنساني، وبذلك رفض ما هو إلهي.

وكان يبحث عن ما هو إنساني ورفض ما هو إنساني، بحثاً عن ما هو إلهي فأنكر الإنسان، فتم ليس نفي الانسان، بل إلغاء الانسان إلغاءً كاملاً.

لكن يسوع جاء لكي يُولد الله والانسان، ليس في كتاب، بل في شخصه الواحد – شخص الاله المتجسد الذي هو إنسانٌ عند الله، وإلهٌ عند البشر؛ لأن الله والبشر يتقابلون معاً في شركة في شخص يسوع المسيح.

د. جورج حبيب بباوي

يناير 2014



([1]) كان البحث الرائد للعالم Andrew Lang في كتاب أكثر من ممتاز بعنوان Myth, Ritual and Religion نُشر عام 1899 وأُعيد نشره ولم يُكتب ردٌّ واحد لتفيد ما ورد في الكتاب، ثم جاء بحث الأب Louis Bouyer في كتاب Le Fils Eternal نُشر عام 1977 من الكتب الرائدة في نفس الموضوع .. ولكن لا زال لدينا غموض بين الخرافة قصة لا تمس الواقع والأسطورة التي تشرح الواقع بالمستوى العلمي الشائع في زمان الأسطورة.

التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة