حول قرار منع التراتيل البروتستانتية -2

درس عملي في الإفراز:

إذا درسنا ترتيلة شائعة “احفظ حياتي ليكون تكريسها لك يارب” نجد أنها تبدو على شكلها اللفظي بريئة تماماً، ولكن ما تحت الجلد لحمٌ مختلف تماماً عن لاهوت التقديس حسب التسليم الأرثوذكسي، ويظهر هذا مما يأتي:

أولاً: التكريس ليس عملاً إرادياً قلبياً فقط –هذا هو الاتجاه الإنجيلي البروتستانتي الأصيل– لكن في الأرثوذكسية، ولاحظ هذه الوحدة، الهيكل يُرشم بالميرون – الأواني المقدسة – المذبح – المؤمن المسيحي يُرشم 36 رشماً بعد المعمودية. التكريس هنا هو التقديس. غابت كلمة التقديس وحلَّت مكانها كلمة “التكريس”، وغاب أيضاً أن التقديس هو شركتنا في روح القداسة حسب تعبير رسول الرب في (عب 12: 10) “لكي تشتركوا في قداسته”.

هل ظهر لك الفرق عزيزي القارئ؟

أدعو القارئ أيضاً أن يلاحظ نمطاً آخر من تطرفٍ مخيفٍ حقاً، عندما يكتب مطران دمياط ويقول عن تقديس الميرون أنه “بيد قداسة البابا شنودة الثالث”. فقد حذف بهذه الكلمات الفاعل الأساسي في كل تقديس، وهو الروح القدس. الواقع أن البابا يخدم ولا يقدِّس؛ لأن الذي يقدِّس هو رئيس الكهنة الرب يسوع بالروح القدس، وصلوات تقديس الميرون واضحة.

ثانياً: يبدأ الانحراف باستخدام كلمات ليس لها علاقة بالإيمان لكي يتحول الوعي والصلاة عن الاهتمام القلبي الحقيقي إلى وصفٍ خارجي. تأمل ترتيلة تقول “الله محبة … لذلك ارتل الله محبة. يحبني … أرسل يسوع ….”، هي على السطح أيضاً بريئة، ولكن اللحم تحت الجلد مريض بالانفصال عن الاتحاد المستيكي بالرب يسوع المسيح نفسه؛ لأن محبة الله الآب ليست فقط في إرسال الابن، بل في عطية الجسد والدم أيضاً. حذفت هذه الترتيلة الإفخارستيا؛ لأن اللاهوت الخفي وراء الترتيلة لا يعترف بالأهمية القصوى بالاتحاد السري بالمسيح. حتى الصليب والمصلوب نفسه بات موضوعاً فكرياً معلناً في الوعظ. وقلنا في مناسبةٍ سابقة إن تعليم النهضة المعاصرة حوَّل الكثيرين من مؤمنين إلى موعوظين، أي أن هذا الوعظ يقتصر على تقديم الإيمان لا تقديم الشركة. نحن نُصلب مع المسيح، ولذلك نرشم الصليب؛ لأن الصليب غُرِسَ فينا بالسرائر.

ثالثاً: لاحظ الفرق الضخم بين ترتيلة تقول: “أمشي في النور كل حياتي .. قال يسوع أنا حماك ووعده حق لا يزول”، وبين صلاة الخضوع قبل التناول في القداس الكيرلسي: “يا الله الذي أحبَّنا .. وأنعم علينا برتبة البنوة لكي ندعى أبناء الله. ونحن وهم وارثون لك يا الله الآب وشركاء في ميراث مسيحك”. ولاحظ -عزيزي القارئ- ما هي غاية الطلبة: “طهِّر إنساننا الداخل كطهر ابنك الوحيد هذا الذي نضمر أن نأخذه”. أما عن الصراع الروحي فبقية الصلاة تقول: “فليهرب عنا كل الزنا من أجل الله الذي من العذراء“، إذ تعود الينا بتولية ميلاد الرب كهبة روحية داخلنا تعمل لطهارة الإرادة والفكر. “الافتخار والشر الأول الذي هو العظمة  من أجل الذي اتضع وحده من أجلنا“، ولاحظ أنه هو وحده الذي اتضع؛ لأن اتضاعنا مسيرة طويلة، أمَّا اتضاع الرب فقد تم بالتجسد. “المخافة من أجل الذي تألم بالجسد عنا وأقام غلبة الصليب“؛ لأن الخوف في جوهره هو عدم الإيمان بالحياة الأبدية. “المجد الباطل من أجل الذي لطم وجلد من أجلنا ولم يرد وجهه عن خزي البصاق“؛ لأن قبول الألم ينزع من الذات كل مجد باطل. وسوف أترك باقي الصلاة التي تنتهي إلى: “كل فكر أرضي فليُبعَد عنا من أجل الذي صعد إلى السماء“. هكذا دخل الرب حياة كل واحد منا وصار واحداً معنا، ليس بالفكر والإرادة فقط، ولكن بما جاءت به استعلانات التدبير التي تبدأ بالولادة من العذراء حتى الصعود: وهنا تختم الصلاة: “هذا الذي بطهارة نتناول من هذه الأسرار النقية ونتطهر كلنا كاملين في انفسنا واجسادنا وأرواحنا” ويصل الأداء الإلهي نفسه إلى هذه العبارة “إذ نصير شركاء في الجسد وشركاء في الشكل وشركاء في خلافة مسيحك” ثم يختم بتمجيد الثالوث “هذا الذي انت مبارك معه مع الروح القدس المحيي المساوي لك“.

ماذا نتعلم؟

لا يكفي أن نمنع، بل يجب أن نذكر الأسباب. المنع دون سبب هو دخول في نفق مظلم؛ لأن كل التراتيل تبدو بريئة، ولكنها تطرح الوعي في فراغ عقلي. وأذكر عندما كنت طالباً في القسم النهاري العالي أن طالباً فُصل من الاكليريكية لسوء سلوكه، وكان احتجاجه بأنه لم يصلي ولم يقرأ الكتاب المقدس، ولكن كان سوء السلوك مصدره انعدام تقديس الجسد والشركة في حياة الرب، أي الشركة الكيانية.

رجاء أن نرى في التراتيل التي يُسمح بها ما يلي:

أولاً: شركتنا في الله الثالوث.

ثانياً: محبة ورحمة الله العظمى في يسوع المسيح التي تُوهب لنا بالروح القدس.

ثالثاً: شركتنا في حياة الرب وشركة الرب في حياتنا نحن كاتحاد حقيقي.

رابعاً: تأكيد دور النعمة الإلهية الأبدي في حياتنا.

ما يخرج عن هذه النقاط الأربع قد يكون تسلية وبعث للعواطف أو الفكر؛ لأننا لا يجب أن نكتفي بالعلاقة العاطفية والفكرية، بل يجب دعم وتأكيد الشركة السرية Mystical ووحدتنا بالرب.

أما تعظيم الرب بالفم دون الحصول على نعمه، ودون شركة، فهو مثل من تقدم إلى خطوبة وعندما حان وقت الزواج تراجع عن الزواج.

أين الخداع؟

الترنيم هو إحدى عطايا الروح القدس لنا، ولكن الكلمات التي تُعيد للإنسان مسؤليته وتحذف دور النعمة عن جهل، وتعمل على شحذ الإرادة بدون عمل الروح القدس، هذه الكلمات لا تصنع أي تغيير حقيقي؛ لأن الضعف الإنساني معروف لنا جميعاً، ولكن مهمة التسبيح هي الالتصاق الكامل بالرب: “عندما نقف أمامك جسدياً انزع من عقولنا نوم الغفلة” هكذا نقول في تسبحة نصف الليل التي رغم ما فينا من نقائص إلَّا أنها لا تُهمل النعمة: “قوموا يا بني النور لنسبح رب القوات“؛ لأننا قبلنا إلى الأبد النور الأبدي لله الآب ربنا يسوع المسيح.

قارن بين هذه البداية وترتيلة كان صموئيل دكتوريان يرددها:

يا إخوتي يوم الحساب تبكي الجبال والهضاب

لأنه يوم العقاب يا ويل للخاطئ الأثيم

بينما نحن نرتل اللاهوت نفسه عندما نقول دائماً بعد كل طلبة: “يا رب ارحم“، أو “كرحمتك يارب وليس كخطايانا“. الخداع هو كما نقول يبدو في أننا نرمي الكرة في ملعب القلب الانساني ونتركه وحيداً فقيراً بدون النعمة وبدون تذكر الرحمة الالهية. والخداع الأكبر أن نظن أن الصلاة والتسبيح هي كل شيء. الصلاة وسيلة وليست غاية؛ لأن الغاية هو ذاك الذي قال: “أنا هو القيامة والحياة” والذي نقول له “لأنك أنت حياتنا كلنا“.

أرحب بكل حوار ونقد بناء وكل سؤال مهما كان.

الرب يعين أم الشهداء في صراعها الداخلي.

د. جورج حبيب بباوي

التعليقات

3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة