بين سلطان المحبة، ومحبة السلطان

سلطان المحبة هو سلطان البذل وليس محبة السلطان

قلقٌ جداً على ما يحدث في أم الشهداء، وأتوقع المزيد من الانفجارات؛ لأن انعدام الحوار، وعدم وجود من يسمع، وإن سمع لا يأخذ قراراً، يشير إلى ثلاث حقائق، هي النار المشتعلة تحت الرماد:

الحقيقة الأولى: هي زيادة سلطان الإكليروس، وانعدام التواصل مع الشعب. وتمسك الإكليروس بهذا السلطان المطلق، سوف يدمر الكهنوت كنعمة. يقال إن الأعداد التي تخرج في صمت نتيجة -هذه الآفة- من الكنيسة الأرثوذكسية، في زيادة لا في نقصان.

الحقيقة الثانية: انعدام التعليم اللاهوتي الجيد، فمستوى ما يقال في كنائس كبرى، يخلو من الإفراز، ويعتمد على ما قلناه في السطور السابقة، أي سلطان المعلم، وهو في أغلب الأحوال من الإكليروس، ويفتقر إلى تقديم المسيح مخلصاً شخصياً.

الحقيقة الثالثة: وهي الأهم؛ لأننا لم نحلل نتائج ثورتي 25 يناير و30 يونيه، وهي أكبر انتفاضة شعبية تشبه إن لم تَفُقْ ثورة 1919. فقد دب الحراك في الأقباط، وانتقل من الدائرة السياسية إلى الدائرة الدينية: الأحوال الشخصية كمثال، وغيرها من موضوعات مما يحدث في بعض الكنائس.

الأب سمعان هو مؤسس خدمة المقطم، وإبعاده -مهما كانت الحجج- هو عثرة لا داع لها. وكما قلنا أكثر من مرة، التعليم يجب أن يسبق أي قرار، وألا يكون التعليم من أجل شخص معيَّن، أو فكرة، بل من أجل الاحتفاظ بالتسليم الكنسي، وهو الحياة المسيحية التي تقوم على الشركة في حياة الرب.

لكي نتجب الانفجار الآتي، وهو آتٍ حتماً، طلبت من البابا تواضروس أن يفتح صفحة لآراء القراء في مجلة الكرازة، ليس فقط للأسئلة، بل لحوار حول كل ما يمكن أن يشغل حياة الشعب. فترك الأمور للزمان لا يحل أية مشكلة، بل إن تراكم الأيام يعقِّد المشكلة، ويصبح الزمان نفسه جزء من مشكلة مزمنة كان يجب حلها منذ عقود مضت. وعلى سبيل المثال المشكلة المتسببة في الجدال القائم الآن، وهي مشكلة تنقية المدائح والتراتيل على أساس لاهوتي سليم، ولكن التراخي في حل المشاكل هو -كما نرى- أحد عوامل الانفجار.

ما هو سلطان المحبة؟

عرض الرسول لسلطان المحبة بأبلغ ما يمكن أن يعبِّر عنه اللسان في (1 كور 13: 1 – 3)، وهو :

* القوة الخلاقة التي تتأنى وترفق، فيعود الرفق بالسلام على من يترفق وعلى الذين حوله.

* المحبة التي تطلب كل خير للآخر، ولذلك فهي لا تحسد؛ لأن الآخر هو إنسان يحتاج إلى معرفة الصلاح والرحمة.

* المحبة التي تعطي بفرحٍ، ولا تطلب حتى المستحَق، وهي لذلك لا تتفاخر ولا تصنف أحداً في مرتبة أعظم أو أقل؛ لأنها لا تسعي وراء مظهر فارغ، فهي لا تتفاخر، وفي ذات الوقت لا تنتفخ؛ لأن العظمة ضد العطاء، وضد صلاح المحبة.

* المحبة لا تنشر السوء، ولا تجد في شرور الناس حديثاً يحلو لها.

* المحبة تعطي، فلا تحتفظ لنفسها بشيء؛ لأنها نابعة من الذي جاد بحياته، الرب إله المحبة، والآب الذي سكب روحه المنبثق منه فينا (يو 15: 26).

* المحبة التي لا تحتد؛ لأن الحوار وطلب منفعة الآخر لا يأتي إلَّا بالحكمة. قدرة المحبة في حكمتها، وهي لذلك “لا تظن السوء”، ليس لأن الناس لهم نوايا حسنة ومقدسة، ولكنها لا تنظر إلى هذه النوايا لأن الشر عابر مهما طال زمانه.

* المحبة التي تفرح حقاً بالخير، وبكل ما هو مقدس ونافع، فلا تفرح بسقوط الآخرين. “لا تفرح بالأثم”، ولا تجد تعزيةً في عذابات الشر.

* المحبة التي تفرح بالحق؛ لأن الله هو الحق المتجسد، وهو الذي رسم كل ملامح أيقونة المحبة. ليس للحق بديلٌ عند المحبة، ولذلك في سبيل الحق “تحتمل كل شيء”؛ لأن معلم الحق حمل الصليب وسار إلى الجلجثة.

* المحبة التي تصدق المواعيد، وهي لا تجد في الشك بستاناً للفواكه، بل بالرغم من أرض الشوك، تراها من بعيد.

* المحبة التي ترجو كل مواعيد الله وتراها حقيقة واقعة، حتى وإن كان العربون فقط هو الذي أمامها.

* المحبة التي تصبر على شيء؛ لأن الرب صبر على الآم الموت من أجل الغاية الأعظم، ومن أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب واستهان بالخزي (عب 12: 2)؛ لأن صبر المحبة يرى المجد الآتي.

* المحبة التي لا تسقط أبداً؛ لأن الرب صُلِبَ وقام حياً.

* المحبة التي تسمع النبوات وتراها خاصة بالزمان الحاضر، ولكنها تسعى إلى ما هو أبدي، ولذلك “النبوات ستبطل”؛ لأنه لا نبوات في الدهر الآتي.

* المحبة التي لها لسان واحد أو لغة واحدة أبدية؛ لأن “الألسنة ستنتهي”، و”العلم سيبطل”؛ لأن مجد معرفة الله سوف يشرق بكل جمال الإلوهة.

أليست هذه صورة يسوع نفسه؟

الكامل والبعض

يقول الرسول: “متى جاء الكامل، فحينئذٍ يبطل ما هو بعض” (1 كور 13: 10). الرب سوف يأتي في مجده؛ لأن إنارة مجد المسيح سوف تشرق بلا عائق (2 كور 4: 4 – 6)، لكن النور الأبدي المشرق سوف يتجلى بالبهاء الأبدي في قلوبنا لمعرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح؛ لأننا سوف نرى، وسوف تغيِّرنا هذه الرؤيا إلى ذات صورة مجد الآب والابن والروح القدس (2 كور 13: 28)؛ لأننا عندئذٍ سنرى بوجه مكشوف، وبلا برقع.

لكن الكامل هو ذلك الذي يجب أن نسعى إليه، وهو المحبة المتجسدة؛ لأن المحبة هي “رباط الكمال”. أما البعض، فهو التقسيم، والتقسيم هو تفتيت الوحدة، وهدم جسد الرب الواحد إلى أعضاء متفرقة.

الطفل هو من يطلب البعض، فعندما تقدم لطفلٍ قطعتين من الذهب والحلوى، فسوف يأخذ قطعة الحلوى؛ لأنه يطلب ما هو مؤقت، في حين أن قطعة الذهب تمكنه من أن يشتري آلافاً من قطع الحلوى؛ لذلك يقول الرسول: “لما كنت طفلاً كطفلٍ كنت أتكلم وكطفلٍ كنت أفطن، وكطفلٍ كنت أفتكر” (1 كور 13: 11).

الكلام – الفهم – الإدراك على مستوى الطفل يخلو من رؤية المستقبل.

محبة السلطة هي شغل الأطفال الشاغل؛ لأنهم يسعون إلى وراء ما يلهون به. بل كانت الشريعة هي الهاجس الذي دفع شاول إلى “اضطهاد كنيسة الله بإفراط” في ذات تطرف عابدي الحرف، ومحبي سلطة التشريع والقوانين؛ ولذلك قدَّم لائحة الطفولة في فيلبي (3: 3 – 14)، دستور الأصوليين:

* من جهة الختان، علامة العهد، مختون في اليوم الثامن، أنتمي بيولوجياً إلى إبراهيم، ولذلك أنا من سبط بنيامين.

* من جهة الشريعة حسب المذهب الأضيق، أنا فريسي.

* أؤكد لكم أنني طاهر من محبة الغير، أي أولئك المرتدين الذين تركوا اليهودية وصاروا من أتباع يسوع “من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة”.

* أنا بلا لوم؛ لأن الشريعة تقول لي إنني طاهر نقي.

لكن جاء زمان التجديد:

* الربحُ صار خسارةً. فقد خرج الرسول من إطار الشريعة المُحكَم؛ لأنه وجد الحرية في المسيح. كيف صار الماضي كله نفاية؟!!

لعل الترتيب الطقسي الذي أُهمل في زمن الأنبا شنودة، وهو لبس الإسكيم قبل رسامة الأسقف، كان رسالة ذات مغزى لأن يتمسك الأسقف بأعظم لقب في تراثنا الليتورجي “لُبَّاس الصليب”، وأن يكون لابساً الصليب، أي متمنطقاً بالقوة التي لا تعرف إلَّا البذل. لعل التهور في السلوك الذي رأيناه عند بعض الأساقفة الذين رُسِموا في سن الشباب دون الالتزام بالمصلوب، إذ صدر قرار حرمان في إحدى العظات لثلاثة من شباب كنيسة خمارويه، وتحول واحدٌ من هؤلاء إلى معاندٍ ساقه الغضب على ما حدث إلى تدمير كل شيء، ولم يحاول الأسقف الاعتذار، هذه ليست إلَّا محبة السلطة، ولكن إلى أي درجة تنتهي بنا هذه المحبة؟

ماذا نعرف عن فضائل الشيطان؟

* هو قوي                  بلا رحمة

* هو حكيم                بلا محبة

* المحبة عنده هي محبة التدمير إهلاك الغير.

هذه هي صورة مخلوق ساقط تحت وطأة الإفراط في كل شيء، وفي محبة السلطة التي تجعله “المُهلك”.

لذلك، منذ حياة الأنبا أنطونيوس الكبير، وحتى عصرنا الحالي، تقول لنا كل مصادرنا الكنسية إن الصليب علامة رعب، وأن رشم الصليب مخيف للشيطان؛ لأن الصليب هو:

* القوة                      التي تعطي الدم المسفوك.

* الحكمة                   التي تبني وتقيم الساقط

* الجمال                    الذي يرد ما فُقِدَ لكي ينال الإنسان مجداً إلهياً.

* الرحمة                     التي تغسل الأدناس

هذه بعض ملامح يسوع المسيح، وهي عندما تغيب من خدمتنا نفقد كل شيء.

محبة السلطان

هي عمل شيطاني يفتقر إلى المعرفة الحقيقية، تلك التي تناقش الجوهر، ولا تتمسك بالمظهر. هي ليست الطاعة وحدها، بل الطاعة لمرجعية تجمع الإكليروس والشعب معاً، وهي بكل يقين مرجعية المحبة والقبول بالبحث والتنازل عن العصمة المطلقة؛ فالذين لم يدرسوا تراثنا القبطي، هم في أغلب الأحوال يفتقرون ليس إلى المعرفة وحدها، بل أيضاً إلى الخبرة، وهؤلاء الذين نالوا الأسقفيةَ مبكراً دون اختبار حقيقي لحياة النسك التي بنت الكنيسة على أساس البذل، هم ضحايا عصرٍ امتد طوال 40 عاماً اختفى فيها الشيوخ الذين عرفنا فيهم الرصانة والهدوء والحكمة، وجاء جيلٌ أمسك بالقيادة في ترفُّعٍ، بل وتشدُّد وكبرياء وصلف وعناد، وكأن أمراض المجتمع باتت ترتع داخلنا، وصار الميكروفون والصراخ وحشد الألقاب وتقليد لغة الصحافة الهابطة هو طابع يميز الخطاب الكنسي.

بالطبع لمع في نور إلهي آخرون من الآباء الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات الذين أشرق فيهم نور الحياة المسيحية الحقة.

أما الأولون، فلم يتراجع واحد منهم ليقول إنه أخطأ، وقد ظهر خطئوهم على مستويين:

* التعليم.

* السلوك بلا محبة.

هكذا يظهر الشيطان في صورٍ متعددة لكي يخيف الضعفاء والذين هم بلا إيمان، ويظهر في تصرفات السلطان الفاقد المحبة.

كيف أفسد الشعب القيادة؟

أولاً: بالخضوع الأعمي، بحجة “وأنا مالي أنا أسعى لخلاص نفسي”. فلم نسمع اعتراضاً واحداً على معاملة الأب متى المسكين طوال 35 عاماً، ولا حتى احتجاجاً واحداً على قرارات الشلح والقطع. وجاءت ثورة الشعب المصري لتوقظ شجاعة الأقباط، وهو ما يجب أن تضعه القيادة الكنسية في اعتبارها.

ثانياً: إن من يخرج على السلوك بقداسة، ولو كان قد نال أعلى درجات الكهنوت ليس له حماية خاصة من الروح القدس، بل هو مثل غيره من الخطاة. فلم نتعلم بعد ماذا فعلت صلوات التحليل في القداسات عندما تضع الأسقف والقس وكل الإكليروس والشعب تحت رحمة الله الآب، تلك الصلوات التي تعلمنا أن نطلب الغفران، فحتى الكاهن مهما كانت رتبته يقول: “حاللنا وحالل كل شعبك”، فهو مثل كل إنسان يحتاج إلى الرحمة الإلهية، وبالتالي ردُّ الكاهن الذي يخطئ في التعليم أو السلوك هو واجب الشهادة الحسنة التي يقبلها الله.

أتعشم من نيافة الأنبا أبانوب أن يجتمع مع الأخوة الذين طُردوا وأن يسمع لهم ويتناقش معهم في محتويات هذه التراتيل، هل هي أرثوذكسية تعيد الوعي إلى الشركة، أم هي غير ذلك.

إن من يتراجع عن قرارٍ هو شجاع وقوي، ومن يتمسك بقرار لا أساس لاهوتي له هو غارق في محبة السلطان، وأتمنى أن يكون الأب الأسقف غير ذلك.

لكن مسئولية الأخوة، ليس التمسك “بما أُنزِل إليهم”، بل الحوار الهادئ البناء لأنه لا عصمة مطلقة لأي صلاة أو أنشودة؛ لأن الواحد الوحيد الذي بلا خطية، والقدوس الكامل هو المسيح، ونحن نقول ذلك علناً بعد مرد القدسات للقديسين: واحدٌ هو الآب القدوس. واحدٌ هو الابن القدوس. واحدٌ هو الروح القدس.

ليرسل الرب شعاع محبته ورحمته إل قلوبنا حتى لا نكون ذئاباً تفترس، بل حملاناً في قطيع الرب.

إلى الأخ باهر وديع

نحن لا نصل إلى السماء على حساب دم فادينا؛ لأن دم فادينا يسري فينا بالإفخارستيا، والسماء هي على الأرض في خدمة الليتورجية. ولا يجب علينا أن نقول: “نحن مكسوين ببر المسيح”؛ لأن رسول المسيح يقول: “نحن بر الله فيه”، أي في المسيح (2 كور 5: 21). هذه مفردات بروتستانتية بحتة لا ذنب لك فيها لأنك لم تجد من يعلم أرثوذكسية صحيحة. أُشير عليك بقراءة كتاب الأب متى المسكين “الخلقة الجديدة”.

لا أتفق معك على إصدار أي حكم عام على شخصٍ ما مهما كان بأنه “لا يتمتع بشركة قوية مع إلهنا الطيب”؛ لأن هذا الحكم خاصٌ بالرب وحده، فلا يجب أن نجلس على كرسي الدينونة مطلقاً.

إلى الأخ مراد حبيب

شاهدت المقاطع التي وُضِعت على اليوتيوب، وكان يجب أن يسبق القرار حوارٌ حول جوهر التراتيل وليس على الموسيقى ولا على طريقة الترديد، ولكني لست شاهد عيان على ما حدث. عدت إلى هذا الموضوع القديم، وأشرت إلى تراتيل بعينها، ذكرتها في المقالات الثلاث التي نُشرت على الموقع كمثال لإتقان الإفراز.

ليكن معلوماً، العبادة (الخدمة) التي لا تؤكد الشركة من خلال الصلوات أو التراتيل هي غريبة تماماً عن المسيح نفسه.

دكتور
جورج حبيب بباوي

التعليقات

12 تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة