الاستحالة السرية، والاستحالة الجوهرية

رداً على مجلة الكرازة – العدد 27 – 28 – 4 يوليو 2014

كتب أستاذنا الكبير، والرجل النبيل د. موريس تاوضروس مقالاً يحاول فيه أن يُلصق تعليم الكنيسة الغربية الكاثوليكية بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ونحن نقصد تعليم الاستحالة الجوهرية Transbstantiation. والاستحالة الجوهرية مصطلح لاتيني اعتمد على فلسفة أرسطو التي تميِّز بين الجوهر والعَرَض، وهو التعليم الذي قبلته كنيسة روما في مجمع اللاتران الرابع في 1215، وقد سبق هذا التعليم كتابات رومانية، ثم عادت الكنيسة الكاثوليكية لتأكيد ذات التعليم في مجمع ترانت في 1551 في الجلسة 13 ضد تعليم حركة الإصلاح.

غياب تاريخ العقيدة المسيحية

ما يُحزن قلبي هو ما يُنشر في مصر في غياب كامل للخلفية التاريخية، وبالذات ذلك الفرع من العلوم اللاهوتية الذي يتصدر دراسة اللاهوت في أي معهد أو جامعة محترمة، وهو History of Christian Doctrine وقد صدرت دراسات جيدة جداً لا تحتوي على أي اتجاه مذهبي باللغات الأوربية الحديثة. وقال لي صديق إن د. حنا الحضري أصدر دراسة عربية لتاريخ العقيدة، ولكني لم أطلع عليها.

والعودة إلى تاريخ العقيدة ضروري؛ لأن بعض الإجابات العقائدية كانت رداً على أسئلة ومشاكل رعائية، وأخرى أثارها الهراطقة، فهي أي هذه الإجابات لم تنشأ من فراغ، بل لها تاريخ معروف يجعلنا قادرين على فهم:

أولاً: المصطلحات اللاهوتية التي سبقت عملية الحوار.

ثانياً: ما نشأ من مصطلحات لاهوتية بسبب هرطقة أو سؤال.

لكن انعدام الجانب التاريخي يؤدي إلى الوقوع في فراغ يسير فيه الكاتب بلا هدى معتمداً على الحس والمعرفة، وقد يكون هذا جيداً، ولكن فقدان الجانب التاريخي يجعل أي بحث بلا أساس حقيقي.

مرحلة السبي البابلي

أطلق المطران يوحنا زيزيولاس هذه التسمية على الكتابات اليونانية التي استعانت بالنظام اللاهوتي الكاثوليكي الذي عرفه علماء اليونان بعد ترجمة الخلاصة اللاهوتية للعالم الكاثوليكي توما الإكويني مثل Dyobounites بل وأيضاً Androutsos وغيرهما من علماء القرن التاسع عشر، وأول العشرين، إلى أن جاء عصر التحرر من السبي البابلي من كتابات المعاصرين لنا مثل Christos YannarasP. Nellas وغيرهما من الذين أعادوا تراث الآباء الشرقيين، وأصرُّوا على استعادة كتابات الآباء باسم الرؤيا الجديدة Neo – Patristic وهو تعبير عن الأبحاث المعاصرة لنا التي نُشِرت في الـ 50 سنة الأخيرة.

بالطبع، ترجمة المصطلح اللاتيني إلى اليونانية ليست مسألة شاقة. وتاريخياً، كان أول مَن استخدم المصطلح في ثوبه اليوناني هو بطريرك القسطنطينية المعروف Scholarius جورجيوس، وكان أحد الذين اشتركوا في مجمع فلورنسا 1439، وصار بطريركاً في 1453 وله عظة بعنوان “الجسد السرائري لربنا يسوع المسيح”، نُشرت في مجموعة الآباء اليونانيين 109 عامود 351 – 374 وهو أول مَن استخدم تعبير “μετουσίωσις” حيث يقول: “لأن تحول μεταβολή الجوهر ούσις إلى جوهر جسد الرب ودمه مع بقاء الأعراض συμβεβηκότα للخبز والخمر، إذ تبقى أعراض الخبز والخمر بلا تغيير” (عامود 351).

وعن بطريرك القسطنطينية نشر غبريال ساويروس، وهو أسقف أُقيم على المدينة القديمة فيلادلفيا في تركيا 1577 شرحاً للقداس البيزنطي، واستخدم في هذا الشرح ذات المصطلح السابق، وهو دفاعٌ عن السجود أثناء القداس الإلهي نُشِر بعد ذلك مترجَماَ إلى اللاتينية 1671 في طبعة حققها O. Richard Simon.

لكن قبل مرحلة السبي البابلي، يجب العودة إلى روما، وبالذات الصراع الفكري اللاهوتي مع Berngar من Tours وكان تلميذاً لـ Fulbert وكلاهما درس مقالة Ratramn بعنوان “جسد ودم الرب”. كان Berngar ولد في سنة 1000 ودرس في كاتدرائية Touros وصار رئيس شمامسة في 1040وهو الذي بدأ به الجدال وانتهى إلى تعبير الاستحالة الجوهرية.

كانت البداية هي عبارة Berngar بأن هناك اعتقاد عام خاطئ بأن “الجسد الذي يقدَّم يومياً على المذبح ليس الجسد الحقيقي، ولا الدم الحقيقي، بل هو شبه ومثال” (الرسالة الأولى، مجموعة الآباء اللاتين، مجلد 163، عامود 1289)، مما دعى الأسقف Hugh أسقف Langres أن يكتب إليه باعتباره صديقاً وتلميذاً درس معه في نفس الكاتدرائية: “إن طبيعة وجوهر الخبز والخمر تتغير؛ لأن إنكار هذا يعني أن جسد المسيح ودمه هو في العقل فقط كفكرة (وهو نفس تعليم الإنجيليين حتى الآن)”. ولكن Berngar كتب رسالة إلى Lanfrace في 1050 وقد صار بعد ذلك رئيس أساقفة كانتربري، محاولاً اقتباس عبارات من أمبروسيوس وأُغسطينوس جمعها كاتب إيرلندي مشهور باسم يوحنا Scot وعُرِف باسم Scotus Erigena ولكن البابا لاون التاسع، وقد وصل الحوار إليه في نفس السنة، عقد مجمعاً في روما وأصدر فيه قراراً بحرمان Berngar وتوالت الحرمانات بعد 1050 في مجامع مكانية خارج روما في Vercelli وآخر في باريس، وثالث في Tours ورأس المجمع Hildebrand الذي صار بعد ذلك البابا غريغوريوس الثاني، وحضر Berngar المجمع، فقد حرصت كنيسة روما منذ إنشائها على ألَّا يُحاكَم أي شخص غيابياً، وأنكر Berngar ما نُسِبَ إليه، وأن الخبز والخمر بعد التقديس هما جسد ودم المسيح الحقيقيان (السرد حسب التاريخ للمؤرخ Witmund في مجموعة الآباء اللاتين 149 عامود 1487)، ولكن كانت هناك هواجس لم تُقنع السلطات الكنسية.

فعقد البابا نيقولا الثاني في 1059 مجمعاً في روما حضره Berngar وفيه وقَّع على وثيقة خطية تقول: “أنا Berngar خادم كنيسة القديس موريس في Augers اعترف بالإيمان الحق الكاثوليكي الرسولي وأحرم كل هرطقة، وبالذات تلك التي جلبت عليَّ سمعة سيئة … أؤكد أن الجسد الحقيقي ودم ربنا يسوع المسيح والذي تعاينه الحواس Sensualirer ليس فقط مجرد سر Sacrament بل حقيقة تمسك بها أيدي الكهنة، وتؤكل بواسطة أسنان المؤمنين” (الآباء اللاتين، مجلد 150: 409 – 411).

ولكن لا نعرف تاريخياً لماذا لم يقف الجدال عند هذا الحد، إذ عُقد مجمع آخر 1063 في مدينة Rouen لمحاربة تعليم Berngar وتم في هذا المجمع بالذات صياغة فتحت الباب أمام تبني تعليم الاستحالة الجوهرية، وهذا هو نص قرار المجمع:

“نؤمن بكل القلب ونعترف بالفم أن الخبز الذي يوضع على مائدة الرب هو خبزٌ للتقديس، وأنه بعد التقديس يتحول بقوة فائقة إلهية إلى ذات طبيعة وجوهر الجسد، وهو ليس جسداً آخر، بل هو نفس الجسد الذي حُبِلَ به بالروح القدس، وولد من مريم العذراء، وأنه هو لأجلنا ولأجل خلاصنا جُلِد وعُلِّقَ على الصليب، ودُفِنَ في القبر وقام في اليوم الثالث من الأموات، وأنه يجلس عن يمين الله الآب. ونفس ما ذكرناه الخمر الذي يُخلَط بالماء ويُوضَع في الكأس يُقدَّس ويتحول إلى الدم الذي سال من الجنب الجريح عندما طعنه الجندي بالحربة من أجل فداء العالم” (تاريخ المجامع Hardouin مجلد 4: 1141 – 1142).

وكان آخر قرار هو الذي صدر في المجمع الذي عُقد في روما 1079 تحت رئاسة البابا غريغوريوس السابع ووقع فيه Berngar على آخر صيغة إيمان، ورد فيها نصاً:

“أنا Berngar بكل قلبي واعترف بلساني أن الخبز والخمر اللذان يوضعان على المذبح في السر وبالصلوات المقدسة وبكلمات الفادي تتحول جوهرياً إلى جسده الحقيقي الواهب الحياة، وإلى دم ربنا يسوع المسيح” (تاريخ المجامع Hardouin مجلد 4: 1583).

ومع أن علماء اللاهوت تحفَّظوا على تعبير الاستحالة الجوهرية بعد ذلك، واكتفوا بالإشارة إلى تحول الخبز والخمر، لكن فلسفة أرسطو صارت أحد مكونات اللاهوت النظري Systematic ومع ذلك لم يتراجع البعد السري Mystical إلى أن عُقد مجمع اللاتران في 1215 تحت رئاسة البابا أنوسنت الثالث، وصاغ المجمع هذه الصيغة التي استقرت بعد ذلك كتعليم رسمي في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية:

“في هذه الكنيسة، المسيح نفسه هو الكاهن والذبيحة، وجسده ودمه حقاً في سر المذبح تحت أعراض الخبز والخمر، الخبز تحول جوهرياً إلى جسد الرب والخمر إلى دمه بقوة الله” (المرجع السابق مجلد 7: 15 – 18).

تعليم آباء الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية

لم تذكر مصادر القون الثلاثة الأولى شيئاً عن تحول الخبز والخمر، وذلك لسببين:

الأول: ندرة ما كُتِبَ عن سر الشكر.

الثاني: لم تكن الكنيسة تعلن التعليم الخاص بالأسرار ، وهو ما عُرِف بـ “التسليم السري”، حتى لا يتحول إلى مادة للهجوم على الإيمان.

وحتى الآباء المدافعون مثل الشهيد يوستينوس، ذكر العشاء الرباني بشكل عام دون أن يدخل في التفاصيل.

جاءت شذرات عابرة في الرسائل الفصحية للقديس أثناسيوس الرسولي دون تفاصيل أو حتى أي شرح، وعلى سبيل المثال لا الحصر:

“نحن لا نأتي إلى عيد أرضي -يا أحبائي- بل عيد سمائي وأبدي، ولا نحتفل به في ظلال ولكن بالحقيقة. لقد امتلأ اليهود من لحم الغنم غير العاقلة عندما يحتفلون بالعيد (عيد الفصح)، ودهنوا قوائم الباب بالدم لعبور الملاك المهلك، ولكننا نحن الآن نأكل اللوغوس الذي من الآب، وقوائم قلوبنا تُختَم بدم العهد الجديد معترفين بنعمة المخلص التي أعطاها لنا” (رسالة 4: 1).

“نحن نأكل من طعام الحياة ونعطش دائماً، وتفرح نفوسنا دائماً كما من ينبوع، بدمه الثمين” (رسالة 5: 1).

“لنستعد لكي نقترب من الحمل الإلهي، ونلمس الطعام السمائي” (رسالة 5: 5).

أمَّا في تعليم الموعوظين للقديس كيرلس الأورشليمي([1]):

“الخبز والخمر في الإفخارستيا قبل استدعاء الثالوث القدوس المسجود له هما خبز وخمر بسيط λιτός ولكن بعد الاستدعاء، يصبح جسد المسيح والخمر دم المسيح” (عظة 19: 7).

ويقول في العظة 21: 3:

“احترسوا من أن تظنوا أن زيت الميرون هو زيت عادي ψίλον لأنه كما أن خبز الشكر بعد استدعاء الروح القدس لم يعد خبزاً عادياً λιτός بل جسد المسيح، ويصير عطية نعمة المسيح بحلول الروح القدس عليه صالحاً لأن يعطي إلوهيته …”.

وحتى التعبير اليوناني الذي استخدمه القديس غريغوريوس النيسي لا يؤدي إلى الاستحالة الجوهرية، حيث يقول:

“لأن الروح يقدس جسد الذي يعتمد، وكذلك مياه المعمودية … والخبز قبل التقديس هو خبزٌ عادي، ولكن بالتقديس السرائري يصبح كما ندعوه نحن أيضاً جسد المسيح … هذه القوة غير المنظورة والنعمة التي فيها تحوله μεταμορφωθεις إلى ما هو أعظم” (الآباء اليونانيين، مجلد 46: 584).

وأيضاً القديس كيرلس السكندري في شرح إنجيل يوحنا 3: 5 يتحدث عن تحول الماء في المعمودية لأن الروح القدس حول الماء إلى قوة إلهية، واستخدم كلمة αναστοιχείούται.

أمَّا السكين العقلية أو النطقية، وهي الكلمات التي وردت في صلواتنا القبطية، يقول عنها غريغوريوس النيزينزي في الرسالة 171 إلى أمفلوخيوس:

“لا تهمل الصلاة والتشفع لأجلنا لأنك بالكلمة تستدعي اللوغوس، وبسكين غير دموية تقسم جسد الرب وتوزع دمه؛ لأن صوتك هو هذه السكين”.

وإذا عدنا إلى معلم المسكونة الحقيقي القديس كيرلس عمود الدين في شرح إنجيل لوقا 22: 19، النص اليوناني، مجلد 72: 912، نجده يقول:

“كان ضرورياً لنا أن يكون (المسيح) فينا بالروح القدس بتدبير إلهي كي ما تمتزج أجسادنا بجسده المقدس ودمه الكريم الذي نتناوله في البركة المعطية الحياة في الخبز والخمر، ولكي لا نُصاب بالرعب والشلل بسبب رؤيتنا جسد ودم على المائدة المقدسة في الكنائس يتنازل الله إلى ضعفنا ويرسل قوة الحياة إلى (الخبز والخمر) ويحولهما μεθίστησιν إلى قوة ενεργεία جسده الخاص لكي نتناوله كواهبٍ للحياة، ولكي يعطي لنا جسدُ الحياة، حياةً، ويبقى فينا بذرةٌ واهبة الحياة”.

وفي نصٍّ فريد عن العشاء السري (مجلد 72: 1028 – 1029) يقول القديس كيرلس:

“إذا كان جسد الله يعطى لنا، وهو هنا الإله الحق والمسيح والرب وليس مجرد ψιλός إنسان أو ملاك كما يدَّعي (الهراطقة) أو واحد من الأرواح المخلوقة. وأيضاً إذا كان ما نشربه هو دم الله فهو ليس فقط مجرد إله، بل أحد الثالوث المسجود له وابن الله نه الكلمة المتجسد …”.

لماذا نرفض تعليم الاستحالة الجوهرية، ونتمسك بالاستحالة السرية؟

1- يبدو بشكل سطحي أن التمييز بين الجوهر والعَرَض هو تعليم بريء غير ضار، ولكن الحقيقة هي غير ذلك؛ لأن الجوهر فلسفياً هو ما يكوَّن الوجود أو الحياة. وجوهر الإنسان هو النطق – العقل – الإرادة – الفهم، وليس الجسد، ولا شكل الجسد مثل طول القامة أو لون الجلد أو أية خصائص جسدية.

والإيمان بالتجسد لا يقبل أن يقع رب الحياة تحت هذا التقسيم الأرسطوطاليسي، فليس في المسيح جوهرٌ وعَرَض، بل هو الإله واهب الحياة. عندما تجلَّى على جبل طابور كانت ملابسه تسطع بنورٍ يفوق نور الشمس -هذا عند أرسطو عَرَض- وعندما تفل على الأرض وصنع من التفل طيناً وطلى عيني الأعمى، أبصر الأعمى -هذا عند أرسطو عَرَض. والجروح التي ظلت في جسده بعد القيامة ليست “عَرَضاً”، بل نحن نقول في صلواتنا: “لكي نضيء بشكلك المحيي” (القداس الكيرلسي). ولقد رفضت التقوى الأرثوذكسية أن تصف جسد المسيح بكلمة “جزء”، بل وصفته بـ “جوهرة”، وهي ليست من “الجوهر”، بل تعني بها ما هو ثمين، ولذلك نقول إن أصغر جوهرة هي جسد الرب، وكل نقطة من الكأس بعد التقديس هي دم المسيح.

2- الأجساد البشرية كلها مزيَّفة. فقد زيَّفها الموت، ودخلت عليها قوة الخطية، ولم يعد في التاريخ البشري جسداً حقيقياً إلَّا جسد يسوع: “جسدي مأكلٌ حق، ودمي مشربٌ حق”. والحق هنا لا يمكن أن ينقسم إلى جوهر وعَرَض، لأن جسدنا الترابي هذا – في أطول نص في العهد الجديد شغل 1 كور 15 كله، يتحول إلى جسد سمائي روحاني، وهو لا يفنى؛ لأن كل الأعراض الجسدية: الطول والوزن …إلخ حسب أرسطو، تتحول بسرٍّ لا ندركه الآن، فلا يفنى الجسد. وما يزرع قوة القيامة التي فينا هو سر الشكر حسب النطق الإلهي: “وأنا أقيمه في اليوم الأخير”. ولذلك -حسب الترجمة القبطية للصلاة الربانية- الإفخارستيا هي “خبزنا الذي للغد”؛ لأن الغد هو القيامة، وهو صدى لأقدم شرح للصلاة الربانية للعلَّامة أوريجينوس.

3- لم يكن الرب يسوع يحيا حياةً حسب الجوهر، ولها صفات عَرَضية؛ لأن حتى المرأة نازفة الدم، لما لمست هُدبَ ثوبه، “شُفِيَت”؛ لأن قول الرب “قوة خرجت مني” صارخٌ في الآذان أن حياةً واحدة لا تنقسم فلسفياً، وبالتالي لا يقسَّم السر نفسه، سر اتحادنا بالمسيح.

4- وتشديد الآباء على أن الخبز والخمر بعد استدعاء الروح القدس، ليسا مثل أي خبز أو خمر، بل صارا جسد الرب ودمه، يؤكد لنا أن التحول يبدأ أولاً في المعمودية والميرون؛ لأننا في صلاتنا نطلب تحول الموعوظين إلى أبناء النور، أبناء الحق، ويسأل الكاهن: “حولهم – ابدلهم”. فالانتقال إلى ملكوت الله، هو تلك الرؤيا المستيكية التي يتم فيها تحول المياه إلى قوة خالقة تلد الإنسان، وتقدس الميرون، وتنقل الخبز والخمر حسب استدعاء الروح القدس في القداسات الأرثوذكسية التي حرصت على استخدام تعبير: “ليصيرا”. وحسب النص اليوناني بعد استدعاء الروح القدس

“καί ποίησον τόν μέν άρτον, τίμιον εώμα τού χριστού σου

واجعل هذا الخبز جسد مسيحنا”.

5- ولعل غياب تعبير “الاستحالة الجوهرية” من القداسات الأرثوذكسية، يجعلنا ندقق في ألَّا نعلِّم بشيء لا وجود له في التسيم الكنسي؛ لأن فاعلية حلول الروح القدس –حسب صلواتنا القبطية- هي: “اظهره قدساً لقديسيك”؛ لأن ما يُستعلَن في الإفخارستيا هو جسد الرب، وليس حساباً عقلياً أو تحليلاً فلسفياً. ولم يكن أرسطو في العلية ليلة تأسيس السر لكي يحكم على العطية الإلهية بأنها حسب الجوهر، وشكلها عَرَضي. ولعل في عبارة الرب يسوع نفسه: “أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 35، 48، 51)، و “الخبز الذي أنا عطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 6: 51)، نقول لعل في هذه العبارة القول الفصل.

فلا ثنائية بين الخبز والخمر، وبين المسيح رب الحياة. وخبز الحياة هو يسوع، كما أن يسوع هو خبز الحياة، وعلينا أن نحذر الانقسام الفكري؛ لأنه يضعف محبتا للعطية الإلهية.

أرجو أن نتحرى الدقة التاريخية.

دكتور
جورج حبيب بباوي


([1]) استخدم القديس كيرلس الأورشليمي تعبير μεταβέβληται في العظة 23: 7 “لأن ما يقدسه الروح القدس حقاً يُقدَّس ويتحول”.

التعليقات

10 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة