تقوى مزيَّفة بلا أساس لاهوتي –3

غياب البُعد الكنسي

صار الحوار ضرورة لحياتنا التي تعقَّدت فيها الأمور، واختلطت فيها الحقائق مع أنصاف الحقائق. صار كل شيءٍ مستباحاً على شبكة المعلومات، حتى الحياة الشخصية التي يُضاف إليها الأكاذيب، ويحشد الشيطان الأقلام المأجورة، لا لكي ننفق على العشوائيات، وعلى الذين فقدوا كل ما يملكون من حطام الدنيا، بل لفتح معارك جانبية تصرف الأنظار عن المعاناة الحقيقية.

أثلج صدري تعليق الأخ سوستانيس -ولعله يواصل الكتابة لِما عُرِف عنه من حدة في البصر ودقة في التعبير- وما ورد فيه عن التمييز بين الغناء والتسبيح.

وطرح الأخ سوستانيس، مع غيره، سؤالاً عما يتداوله البعض على شبكة المعلومات الدولية عن العلاقة الحقيقية بين الأب متى المسكين، ود. سامح موريس، والأخ ماهر فايز. والإجابة ليست غامضة ولا مستحيلة، ليفهم القارئ:

– القمص متى المسكين راهب قبطي عاش في الكنيسة، وخدم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تعرَّض للتشريد والحرمان والتجريد لمدة 12 سنة، ولكنه لم يترك الكنيسة مثل غيره كالأنبا إيسيذوروس مؤلف الخريدة النفيسة وإصدارات أخرى، ولا كالقمص مرقس سرجيوس الذي مات مجرداً من الكهنوت.

– د. سامح موريس كان معنا في اجتماع شباب مار جرجس، مصر الجديدة، واشتبك معي ذات مرة في حوار عنيف، ثم اختفى بعد ذلك من حياة الكنيسة القبطية ليظهر بعد ذلك في كنيسة قصر الدوبارة.

– أما الأخ ماهر فايز، فلا أعرف عنه إلَّا القليل، ولكنه في رده على المقال الأول من هذه السلسلة، ذكر ما لديه من ثوابت المسيحية: الثالوث – تجسد الرب – الصلب – القيامة – الروح القدس …إلخ

العموميات القاتلة للحياة الروحية

أول هذه العموميات هو أن القمص متى المسكين كان راهباً قبطياً ومدبراً لعدد كبير من الرهبان والراهبات، ربط التراث الآبائي الأرثوذكسي بالتراث العالمي المسيحي الذي تخلص من إبداعات المذاهب، وعاد ليدرس الكتاب المقدس بكل ما وصلت إليه دراسات التاريخ واللغات القديمة، فترك كل ما جاءت به حركة الإصلاح الأوربي، وكوَّن أفضل حالة اقتراب من التعليم اللاهوتي القديم، وكمالٍ على ذلك، يكفي هنا أن نشير إلى المجلدات الثلاثة لأكبر لاهوتي إنجيلي، وهو الأستاذ السابق Thomas Oden وصدرت باسم Systematic Theology عاد فيها إلى التقسيم القديم عن الآب والابن والروح القدس، وحشد فيها من التراث الشرقي والغربي معاً كل ما يهدم مقولات وتعليم القرن 16 – 18 في الغرب.

إن حشد العموميات يقتل الحياة الروحية المسيحية، وهي هنا بكل أمانة ودقة تظهر لمن لديه الأمانة، إذ يصاب التعليم بالغموض، ولاحظ:

1- تعد العموميات مصدراً للنزعة الفردية؛ لأن الغناء، وهو “السماع” عند الصوفية الإسلامية، هو حالات الوجد والعشق التي تصل فيها النفس إلى ما وصل إليه ابن الفارض الذي مات جوعاً لأنه صام حتى يرى الله، ويتحد به بقواه الإنسانية فقط. أو هو صرخة الحلاج الذي قال:

عجبتُ منك ومني           يا منية المتمني

أدنيتني منك حتى            ظننت أنك أني

أو

اقتلوني يا ثقاتي              إن في قتلي حياتي

ومماتي في حياتي              وحياتي في مماتي

إن عندي محو ذاتي           من أجلِّ المكرمات

وبقائي في صفائي           من قبيح السيئات

أو

طلعت شمسُ من أُحبُّ بليلٍ  فاستنارت فما عليها من غروب

إن شمس النهار تطلع بالليل   وشمس القلوب ليس تغيب

ذلك الوجد والشوق العام، هو برئٌ تماماً، ولكنه رغم الهروب من الذات، هو ذاته، تحصُّن الذات في الهروب، والظن بأن الله هو الكيان الإنساني الذي وصل إليه الصوفي، هو الذي أشار إليه أستاذنا د. عبد الرحمن بدوي في دراسة جيدة جداً بعنوان شطحات الصوفية، وجمع هذه كلها د. شريبة من علماء الأزهر في كتابه “طبقات الصوفية”.

العموميات تتجاهل الانتماء الجسدي – العضوية في جسد المسيح الواحد – الكنيسة، وأرجو أن يتفضل د. سامح موريس، والأخ ماهر فايز بأن يقولا لنا شيئاً عن الكنيسة.

وفي الحقيقة، إن اجتماعات الإنشاد والعزف، وما يُسمى بالتسبيح، ليست اجتماعات كنسية؛ لأنه حيث لا توجد مائدة الرب، فالكلام لا يخرج عن تيار الصوفية، المتمثل في انغلاق الفرد على فردانيته وعشقه للارتباط العاطفي والفكري، وضياع الوحدة مع جسد المسيح مصدر الحياة الكيانية الحقيقية؛ لأن تلك الحياة الحقيقية هي بعينها جسد المسيح.

لم نسمع من كل الأخوة الإنجيليين طوال 50 عاماً شيئاً عن وجود القديسين في الاجتماعات، فهولاء عند أغلب الوعاظ والخدام الإنجيليين “موتى”. أين الملائكة والقديسة مريم والآباء الشهداء من الرسل والمعترفين والنساك وغيرهم؟

يكفي أن أسماء الكنائس هي قصر الدوبارة – الملك الصالح – كنيسة المنيا الأولى … وغيرها من أسماء بلا أساس كنسي؛ لأن الأساس الذي وضعه المسيح رب ورأس الجسد لا يغيب في غياهب تاريخ قديم. ولذلك طلبت من د. أندريا ذكي أن يعيد إصدار مؤلفات الأديب الكبير القس لبيب مشرقي في مجموعة الأعمال الكاملة. وأرجو أن يُسأل الأخوة عن إبراهيم سعيد – توفيق جيد – لبيب مشرقي – فهيم عزيز، أين هم؟ هؤلاء موتى لأنهم بلا وجود حقيقي إلَّا في ذاكرة أجيال لم تعد تتذكر أمثالهم؛ لأن النزعة الفردية فصلت بين الفرد والجماعة، وماتت وحدة الجسد الواحد.

2- يقول الأخ ماهر فايز إن لديه ترانيم عن الثالوث. هذا جيد وحسن، ولكن السؤال الحقيقي يا سيدي الكريم:

– أين ترتل هذه التراتيل؟

– ما هي المناسبة التي ترتل فيها؟

يبدأ القداس القبطي باستعلان الثالوث: “مجداً وإكراماً إكراماً ومجداً للثالوث القدوس ….”. ويحمل القس خبز الإفخارستيا أو القربانة؛ لأن الثالوث لا يستعلَن في تسبيحٍ يخلو من الإفخارستيا. وإذا رتلنا للثالوث خارج القداس الإلهي، فهذا انفراد وخروج على دائرة السر المعلَن في يسوع الذي به يجمعنا في وحدة إلهية إنسانية هي جسده المقدس الكنيسة، ومعنا كل السابقين علينا شهودٌ على الفداء والخلاص، وعلى الشركة التي نالوها في الحياة الإلهية.

ومناسبة الترتيل هي يوم الرب، هي يوم العبور، أو الفصح. عبورٌ من الموت إلى الحياة، وهي دخول أرض الموعد، أي الكنيسة، بعد عبور الأردن – المعمودية المقدسة – ونوال مسحة الروح القدس. إنه تسبيح العشية ونصف الليل وباكر والقداس الذي به يُستعلَن اتحاد الرأس بالأعضاء في سر الشكر.

3- عندما يكتب واحد من عاشقي د. سامح موريس أنه يعلِّم بتعليم الأب متى المسكين، ويقول إن د. سامح يؤكد أن العشاء الرباني هو جسد حقيقي، فليس هذا إلَّا خداعاً للسذج من الأرثوذكسي الذين هجروا الكنيسة إلى هذه الاجتماعات لأسباب كثيرة يصعب على القلم والقلب معاً أن يذكرها.

فهل يكفي أن نقول عن العشاء الرباني إنه جسد حقيقي دون تعليم حقيقي عن الكنيسة؟ سؤال ضروري؛ لأن الجسد الحقيقي هو الذي يجمع مريم أم الرب ومار جرجس والملاك ميخائيل وكل الشعب الواقف؛ لأن الرأس الذي وحَّد السماء والأرض معاً تحت رأس واحد هو يسوع “الذي فيه سُرَّ أن يحل كل الملء”، ثم يجيء بعدها مباشرةً: “وأن يصالح به (بهذا الملء) الكل لأقنومه (لنفسه) عاملاً الصلح بدم صليبه سواء كان ما على الأرض أم ما في السماء، وأنتم قد صالحكم الآب في جسم بشريته (إنسانيته) ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه”، ثم لاحظ “إن ثبتم على الإيمان متأسسيين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل … الذي أفرح الآن في الآمي لأجلكم وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كو 1: 19 – 24).

هكذا صاغ رسول المسيح الخلاص الكوني: أساسه تجسد الرب – المصالحة في الصليب – ودم الصليب هو بذل الحياة الذي أعادنا إلى جسم إنسانيته – وهو جسده، أي الكنيسة، فلا ثنائية بين الرأس والجسد؛ لأن هذه الثنائية دخلت تدريجياً مع صعود البابا إلى رئاسة الجسد في روما، ودخلت الفكرة عندنا في زمن الأنبا شنودة الثالث فقط، وتحول الجسد الواحد إلى رئاسة ومرؤوسين، وإن كانت حياة القديسين الذين سبقونا تظل تشهد بغير ذلك.

4- والعموميات جعلت “حساب دم المسيح” موضوعاً خارجياً بين الإنسان والآب – مع غياب الروح القدس. لكن دم المسيح يُعطى بالروح القدس في سر الشكر، فلا يكفي أن يرتل الإنسان لدم المسيح أو للروح القدس بدون إفخارستيا؛ لأن هذا يُدخلنا في متاهات الحياة الفكرية، وفي “الذِّكر”، أي عمل الذاكرة الدائم الذي يشغل حياة الصوفيين. أمَّا التذكر في الأرثوذكسية، فهو استنارة الفكر والإرادة، وإعادة الإنسان إلى الشركة في الحياة الإلهية بالمسيح وفي الروح القدس.

ماذا يعني غياب التعليم عن الكنيسة؟

نتساءل عن كنه الجماعة التي ينضم إليها الذين يسمعون الغناء أو التسبيح خارج الإفخارستيا؟

لقد حدث انقضاضٌ على تاريخ الكنيسة وشهادتها عبر التاريخ تحت اسم شفاعة المسيح وحدها، وكأن شفاعة الروح القدس غير موجودة، وغير مطروحة في التعليم (رو 8: 27)، مع أن الوسيط والشفيع الذي يقدمنا للمسيح الرب هو الروح القدس.

جيد أن يكون لدينا تراتيل عن القيامة، ولكن القيامة انفصلت عن الإفخارستيا في تراث حركة الإصلاح والكنائس الإنجيليه كلها، ولم يعد للقيامة مكان في وحدة جسد المسيح؛ لأن أعضاء جسد المسيح ليست أعضاء ماتت، بل هي حيَّة وتسري فيها ذات الحياة الواحدة التي تسري في مريم والدة الإله، وفي كل الذين في “كورة الأحياء إلى الأبد”، وفي كل الذين على الأرض، حياة واحدة لجسد واحد هو جسد المسيح.

الانفصال عن الكنيسة هو العنوان الواضح لما يحدث في اجتماعات الوعظ والترتيل؛ لأن هذه الاجتماعات تغذِّي الاتجاه الفردي، وتخلق جماعات تلتف حول شخص معين غير شخص المسيح، وبالتالي لا وجود بالمرة لشهادة وقدوة القديسين ولا يوجد حتى الانتماء إلى الجسد الواحد.

إن أكثر ما يضايقني هو الكلام العام عن “تعليم القمص متى المسكين”. ما هو هذا التعليم؟ وما هي مكوناته؟ وإلى أي درجة يتفق القمص متى مع ثوابت المذهب الإنجيلي؟ ألا يعد ذلك خداعاً للأرثوذكس، يمارَس بقصد حشد الاتباع، بل وتعميق تكوين جماعات لا تنتمي إلى الكنيسة، بل إلى القمص متى، وهو ما لم يخطر على قلب الأب متى بالمرة، خصوصاً وهو ليس له تعليمٌ غير التسليم الكنسي الذي يعرفه رهبان ديره، ويعرفه كل أرثوذكسي؟!

– إن كل من يُعلِّم، ويكوِّن جماعات تجد لذةً في الكلمات والموسيقى، فهو مؤسسٌ لحركات انفصالية، أينما ذهب، فهو يمزق وحدة جسد الرب. لا يهم ماذا يقال من كلمات، ولا حتى أصلها التاريخي، فطالما خرجت عن الاجتماع الإفخارستي، فهي فاقدة للشرعية، وفاقدة لقبول عطية الحياة الأبدية، التي لا تُعطى بالإيمان وحده؛ لأن الإيمان -تخصيصاً- هو قبول جسد ودم عمانوئيل: “يعطى عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياةً أبديةً”، وذلك كما تعلِن كل قداسات الكنائس الأرثوذكسية: القبط – الأرمن – السريان – الأحباش – الروم.

– استمعت إلى ما أشار إليه الأخ ماهر فايز. وفي الحقيقة، الحكم ليس على جودة وأصالة ما يقال، بما فيها من مقاطع من القداس الغريغوري، بل فيما يعنيه التسبيح خارج الليتورجية. فبكل أمانة وصراحة، هذا ما ينطبق عليه ما قيل في المزمور: “كيف نسبِّح الرب في أرضٍ غريبة”؟ كيف نسبح الثالوث دون قبول الإفخارستيا، وبدون استدعاء الروح القدس؟

لا يهم الجمع الغفير، ولا عذوبة الصوت؛ لأن هذا رغم أنه نعمة من الله، إلَّا أنه يصب بعيداً عن الجسد الواحد، جسد يسوع.

ويبقى غياب الانتماء السمائي الذي أشار إليه رسول الرب في كولوسي 1: 19 وما بعده، المصالحة مع السمائيين. فنحن نرتل مع الشاروبيم والسيرافيم؛ لأن شجرة الحياة، جسد الرب ودمه، تُعطى لنا، ولأننا منذ أن نولد في مياه المعمودية، ننال خدمة الأرواح الخادمة المرسلَة للذين يرثون الخلاص (عب 1: 14). وبالطبع، ضاع هذا ضمن ما ضاع؛ لأن المسيح رأس الكنيسة، يجمع أعضاء جسده في الخدمة الإلهية موزِّعاً على الكل جسده ودمه. وغياب الملائكة والحراسة الملائكية يقطع تلك الوحدة تحت الرأس الواحد؛ لأن الذين لا يطلبون هذا في الصلوات وفي الاجتماعات، هم عن قصدٍ وعن جهلٍ أيضاً تركوا المصالحة الأبدية التي جاء بها الرب نفسه، والتي أسسها، ودعَّمها بالروح القدس، وهو ما يؤكده القديس باسيليوس في كتاب الروح القدس على أنه التسليم الكنسي الذي يعود إلى الآباء الرسل.

لا أريد هنا أن أدخل في الفرق بين الغناء والتسبيح، هذا متروكٌ لمن درس هذا الموضوع. ولكن لم تسمح الكنيسة بالآت العزف، رغم أنها كانت في خدمة العهد القديم؛ لأن الانتباه ليس موجَّها للعزف، ولا للصوت الملائكي، بل لاستعلان الشركة الأبدية التي توهَب من الآب في الابن بالروح القدس. وهذه لا تحتاج إلى هذا الطوفان من التراتيل، بل تحتاج إلى الثبات الذي تؤكده الصلوات؛ لأن التكرار الدائم يخلق الانتباه، ويحارب طياشة الأفكار، وينقل الإنسان من الطرب والوجد والعشق … إلخ إلى عطية الله التي لا تعبِّر عنها الكلمات، بل تعطى باستنارة الروح القدس. وعندما يُشرق الروح القدس في قلب الإنسان، يتوقف الفكر، ويترك الكلمات، ليدخل المجال المستيكي، وهو الاتحاد بالمسيح.

إن اتحادنا بالمسيح هو الذي يجعل اتحادنا بالكنيسة حقيقة ثابتة وأبدية.

أخيراً: وبدون أية حساسية، الإيمان بالإله المتجسد هو حقيقة تعاش في جسده الحي الكنيسة. لأن ربُّ المجد لم يأتِ لكي يكوِّن أحزاباً وشيعاً وجماعاتٍ، بل لكي يجمع في جسده الواحد السمائيين والأرضيين، ولكي يؤسس شركة أبدية؛ ولذلك حرص قانون الإيمان على وضع الإيمان بالكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية، تلك التي هي الامتداد الحقيقي لتجسد الرب، ومُلكِه على الأرض في حياة القديسين. (يتبع)

دكتور
جورج حبيب بباوي

التعليقات

2 تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة