الإلحاد أشر من الخرافات – 1

الإلحاد، أشرُّ من الخرافات –1

“مساء الخير يا دكتور جورج .. نعمة ربنا تكون مع حضرتك .. يا دكتور أنا متابع السجال اللي داير الأيام دي بين حضرتك والمرنم ماهر فايز .. وكنت عايز أعرف .. هل حضرتك عارف أن في يوم من الأيام الناس هتبطل تسمع ماهر فايز وهتبطل تسمع غيره لأن الإلحاد أبتدى ينتشر في مصر ووسط الأقباط؟؟ ليه حضرتك مش بتكتب حاجة ضد الإلحاد؟ تكتب عن نظريةالتطور ورأي حضرتك فيها؟ ليه مش بتكتب عن اللاهوت الليبرالي اللي أبتدى ينتشر في مصر؟ دلوقتي فيه بولتمانيين مصريين وابتدا يكون ليهم تأثير؟ إيه؟ حضرتك مش شايف كل ده وبتتكلم بس عن ماهر فايز؟ شكرا ..”

تلك هي الرسالة التي وصلتني مؤخراً من الأخ مايكل.

صديقنا مايكل يعاتبني على ما أعتبره هو “سجالاً” بيني وبين الأخ ماهر فايز، وقال إن خدمة التسبيح أفضل من تيارات الإلحاد واللاهوت البولتماني، إشارةً إلى المؤلف والأستاذ اللوثري النشأة (1884-1978) Rudolf. Karl Bultmann صاحب التفسير الوجودي الذي أعاد تفسير العهد الجديد على أساس ما هو تاريخي وفلسفي، وما هو ميثولوجي Mythical وننتهز هذه الفرصة لننبه إلى أنه من الخطأ ترجمة كلمة Myth إلى خرافة؛ لأن الخرافة لها معنى آخر في العربية، وهو الخيال والوهم، بينما كلمة Myth تعني الأسطورة التي تشرح الكثير من الأمور الطبيعية، بل وما وراء الطبيعة بشكل يتفق مع العلوم السائدة في ذلك الزمان.

أولاً: لا يوجد “سجال” بيني وبين أحد، سوى أنني أقاوم ما يحدث من هدم لأم الشهداء بوسائل قد تبدو بريئة، في حين أنها وسائل تؤدي إلى اغتراب الأقباط في الكنيسة، وبالتالي جمع هؤلاء المغتربين في تجمات لها شكل التقوى، ولكنها -كما ذكرت- تفتقر إلى الأساس المسيحي اللاهوتي الصحيح التاريخي الثابت عبر العصور.

إن خلق هذه التجمعات لا يخدم قضية المسيحية المصرية، بل يحول الأقلية المسيحية إلى تجمع أقليات لا يربط بينها أي رباط تاريخي.

ويبدو أن الأخ مايكل لم يقرأ مقالات ظاهرة الإلحاد في مصر التي نُشرت على الموقع، ولكنني أريد أن أعود إلى هذا الموضوع بعد أن وصلتني رسائل عديدة تطالب بنشر كل ما يمكن نشره عن الإلحاد الأوروبي والمصري أيضاً.

الإلحاد، يا ليته عدم الإيمان بشيء:

لو كان الإلحاد هو عدم الإيمان بأية عقيدة أو فكرة أو مبدأ مهما كان، أو كانت، فهذا في حد ذاته يمكن أن يكون بداية جديدة، ولكن الإلحاد يخلق بدائل للإيمان بالله. فما هي هذه البدائل وما هو خطرها على الشخص الذي يدَّعي الإلحاد؟

لقد ظهرت هذه البدائل في حياة الحكومات والشعوب التي تدعي الاشتراكية أو الشيوعية أو ….. الخ. صار الزعيم هو البديل. حلَّ محل الله أو المسيح أو الكنيسة. وظهرت أيقونات أرثوذكسية لكل من: ستالين – لينين – وغيرهما من زعماء الحزب. وعبادة الزعيم في كوريا الشمالية موثقة بالصورة والتسجيلات، وهي عبادة تجعل عقوبة مخالفة الزعيم = الارتداد = القتل، أي أنها لا تختلف عن الاتهام بالكفر.

هذا سهلٌ وموثق في التاريخ الذي رأينا “ذيله” أو “ذنبه” في ما عشناه. ولكن ما هي البدائل الأخرى؟

الفرد، وليس الشخص هو مقياس ومرجعية الحقائق:

الفرد Individual هو الكائن المنغلق الذي يدور حوله كل شيء، فهو مركز الكون كله، والآخر أو الكل يجب أن يدوروا حوله، وهي صورة مُعدلة من النرجسية Narcissism وتعديل أو تحسين هذه الصورة راجع إلى الاحتياجات الضرورية التي يجب أن ينالها الفرد من الذين حوله. الضرورة Necessity هي التي تخلق ما يريده الفرد من المجتمع، وهي مصدر النفاق – الكذب – القهر – الاستبداد؛ لأن الفرد لا يريد إلَّا ذاته وحدها على حساب الآخرين.

أنا أحمل في قلبي كل احترام لمن يصارع، ولكنني في نفس الوقت، أدعو من اكتفى بالانغلاق إلى إعادة قراءة مقال نُشر في الدستور الأصلي في 29 يوليو 2014 بعنوان “في بيتنا ملحد”، وقد كُتب المقال بشكل عام دون الدخول في تفاصيل حتى يتجنب الكاتب جهنم الحمراء التي قد تشن عليه حرباً شعواء في الفضائيات.

بكل وضوح تكلم المقال عن انعدام الحوار. وبكل وضوح أيضاً كتب الأستاذ حمدي رزق مقالاً في المصري اليوم 8 أغسطس 2014 بعنوان بنطلون الأنبا بيشوي. وقبل ذلك خاض الأستاذ إبراهيم عيسى حواراً ساخناً عن “عذاب القبر”، وقبله عن بول البعير، وانضم الأستاذ عاطف بشاي إلى ركب الإعلام بمقال “الأنبا بيشوي – الأسقف الوهابي”، ثم جاء دور إمام ميدان التحرير (الشيخ ميزو) عن عذاب القبر، مع هجوم عنيف على صحيح البخاري.

إذا تجاوزنا هذا كله رغم ما فيه من إنذارات واضحة، وحاولنا أن نقترب لا من الموضوعات التي كُتبت رغم أهميتها، بل من جوهرها كظاهرة في حياة مجتمع متدين منذ فجر الحضارة الإنسانية وهو مصر، نجد أن هناك سؤال هام يطرح نفسه بشدة: ما هي الأسباب الجوهرية لارتفاع نبرة الحوار “غير المعقول” و”الفتاوى القهرية”؟

أولاً: فقدان دور الايمان بالله في بناء الشخصية:

أي تحول الفرد إلى شخص Person والشخص هو الانسان الحر المنفتح بحرية ومحبة وعطاء على الآخرين. ولذلك، كل ما يقال عن الله يجب مراجعته؛ لأن الله يظهر بشكل طاغية يلغي حرية الشخص، يرصد الأخطاء ولا يُلهم بالتقدم والنمو والتراجع عن الأخطاء من أجل التقدم والنمو العقلي والنفسي.

ثانياً: منهج الكسل العقلي:

ذلك المنهج الذي شاع من قبل في اجتماعات الجمعة، ثم الأربعاء. “خُد الأمور ببساطة”، وهي تعني “خليك عبيط”. ومع أن لدينا قديسين تظاهروا “بالعبط” في زماننا وفي التاريخ، إلَّا أن هؤلاء كانت لهم بصيرة نافذة روحية، ولم يكونوا مرضى بكسل العقل مثل القمص ابراهيم – بني صامت – أو القمص عبد المسيح المقاري وغيرهما.

ومع قبولي للطرح العام لمقالة الدستور الأصلي، فهي جيدة جداً، إلَّا أنها لم تدخل في التفاصيل حرصاً على المشاعر وتجنباً للصدام مع التيارات الدينية التي تلهث وراء السلطة المدنية وتختفي خلف الدين والعقيدة.

ثالثاً: الخطاب الترهيبي لدرجة التنفير أو الترغيب الطفولي:

وهو السبب السابع. لم تذكر المقالة أي تفاصيل، ولكن الترهيب قائم على اختيارين: الله، أو جهنم الحمراء.

واعتقد من خلال المعايشة طوال 35 عاماً في مصر أنه لا يوجد فرق جوهري بين أي مسيحي ومسلم مصري في حصار الاختيار بين اختيارين: الله أو جهنم .. لا زال موقفنا من الشك سلبياً. حاولت أثناء وجودي في القاهرة، أن ألتقي بأعظم مثقفي مصر للحوار عن معالجة الشك في المجتمع، ولكنهم -بعد حوارات طويلة- أحجموا عن النشر، فهم في غنى عن معارك اعتبروها كلهم خاسرة؛ لأن مستوى الحوار الذي يقوده الإعلام هو مستوى لا يليق بالحوار الرصين؛ لأن كل معالجة لأي قضية دينية، يوجد تحت جلدها هدف سياسي. وهنا لا أملك أن أشير إلى صاحب هذه العبارة، فقد رحل عن هذه الدنيا، وهو لا يملك أن يراجع عبارته بالنفي أو التصديق.

لكن هل لدينا في الخطاب الديني اختيارين فقط: الله أو جهنم، أي الايمان بالله من أجل الهروب من “عذاب النار”، أم أن هناك اختيار ثالث، وهو الانسان نفسه؟

عندما درست القرآن في جامعة كامبريدج من أستاذنا العظيم أرثر Arberry كانت له وجهة نظر، وهي أن القرآن احتوى على دعوة كونية “للناس”، ودعوة عامة “للمؤمنين”، ودعوة خاصة “للمسلمين”، وأن الدعوة الكونية هي دعوة إنسانية من “رب الناس إله الناس”. وإذا صح هذا المنهج، فإن اختيار الحياة الإنسانية، هو كيف يكون الإنسان إنساناً، وكيف يساهم الإيمان في “أنسنة” الإنسان. تلك هي قضية كونية الآن في ثقافة عالمية يوشك قطارها أن يتركنا على محطات السلفية والأصولية ومحطات فتاوى الاكليروس وما أكثرها .. فقد جعلت هذه الفتاوى البشر بلا رؤوس، ولك أن تتصور أجساداً تسير بلا رؤوس؛ لأن الفتاوى قطعت العقل وحطمته بشرائع تهدف إلى تكوين عبيد.

رابعاً: كيف نكون عبيداً؟

العبودية الكامنة في العقل والقلب هي أن يصبح الانسان آلة يحركها آخر بفكرة أو ممارسة أو طقس يُمارَس باسم سلطة عليا إلهية تهدد مَن يفكر “بعذاب السعير”، أو “عذاب النار”. أتمنى أن يقوم المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بدراسة عن فكرة جهنم النار في تراثنا المصري ودورها السلبي والإيجابي أيضاً في تكوين الوعي الديني المصري، الذي اعتقد جازماً في ضوء ما جاء في دراسة د. ميلاد حنا “الأعمدة السبعة للشخصية المصرية” أن جهنم صارت البديل لله الخالق، وكأن الله قد تحول إلى هذه النار المدمرة. وكأنه قد خلق بشراً لكي يكونوا وقوداً للنار. أليس هذا الخوف المطلق هو أحد أركان الإرهاب المسلح الذي يختفي وراء الإسلام من أجل الوصول للسلطة؟ وإلَّا كيف نفهم داعش وغيرها والاعتداء على رجال الشرطة والقوات المسلحة باسم الدين.

دكتور

جورج حبيب بباوي

التعليقات

2 تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة