الحلول المتبادل لأقانيم الثالوث – 1

الحلول المتبادل لأقانيم الثالوث – 1

Perichoresis

Περιχώρησις

الحلول المتبادَل هو أقرب ترجمة عربية لهذه الكلمة اليونانية التي أنارت فكر الكنيسة وحياتها حول علاقة أقانيم الثالوث، لا سيما ما ورد على فم الرب في إنجيل يوحنا ص 17 وفي مواضع كثيرة أخرى في العهد الجديد.

الآب يحل في الابن والابن في الآب. الروح يحل في الابن وفي الآب. هي حركة حياة الثالوث عندما تجسد ابن الآب الوحيد “الكائن في حضن الآب” (يوحنا 1: 18)، والذي أضافت صلاة قسمة عيد الميلاد: “الكائن في حضنه الأبوي كل حين، أتى وحَلَّ في الحشا البتولي”، فهو في حضن الآب، حتى وهو في أحشاء القديسة مريم، وهو على الصليب، وهو في القبر. طبعاً هذا هو الأقنوم الذي يحمل في ذاته الإلهية، الإنسانيةَ متحداً بها اتحاداً غير قابل للانفصال. يأخذ الابن إنسانيته من الروح القدس: “الروح القدس يحل عليكِ، أي على القديسة مريم”، وتدخل هذه الإنسانية في حياة وحركة الحلول المتبادَل.

في اقنوم الابن يتحرك الابن كما يتحرك فيه الآب والروح. وإنسانية يسوع ليست متفرجة، بل تقبل حياة الحلول المتبادَل، وتدخل في حضن الآب وتستقر فيه بسبب الاتحاد الأقنومي، وهناك تختبر وترى انبثاق الروح القدس من الآب (يوحنا 15: 26)، ولذلك يظهر لنا الابن المتجسد هذه الحقيقة التي تخفي على إدراك أي مخلوق، والتي يدركها الإنسان الآن من خلال استعلان يسوع المسيح لهذه الحقيقة الفائقة.

هذه حركة محبة يقول عنها الرب: “لهذا يحبني الآب لأنني أضع نفسي لآخذها أيضاً” (يوحنا 10: 17). حركة المحبة هذه تجعل الابن، حتى في إنسانيته، فوق قوة الموت. يموت أو يذوق الموت، ولكن “بذوقه الموت عنا” حسب تقوى كنيستنا، أعطى لنا “الغلبة”، أي ذات عدم الموت التي في الحلول المتبادَل. هذه الغلبة ليست فقط بسبب الاتحاد الأقنومي؛ لأن الاتحاد الأقنومي لم يعطِ لنا شيئاً لا وجود له في الثالوث، لكن قبل ذلك يأتي الروح من الآب لكي يمسح يسوع في الأردن ويعطي ليسوع مسحةً أبديةً تجعله “المسيح”، وعندما يمسح الروح القدس يسوع، يدخل يسوع ليس بالاتحاد الأقنومي وحده، بل بالمسحة في الحلول المتبادَل لأن هذا هو ميراث الإنسانية الجديدة في يسوع.

وعندما يُستعلَن الابن بواسطة الآب: “هذا هو ابني الوحيد الذي به سُررت”، فهذا عن الإله المتجسد، وليس عن أقنوم الابن فقط، بل الأقنوم المتجسد، ويجد الآب في حلول الابن المتجسد فيه مسرةً وفرحاً بالإنسانية التي دخلت هذه الحركة في يسوع المسيح.

عندما أسلم الربُّ روحه الإنسانية على الصليب، ومات موت البشر، ودفنه يوسف الرامي ونيقوديموس، كان الحلول المتبادَل بين الثالوث هو أساس القيامة والفداء الأبدي. ذُبِحَ الابنُ بالجسد، وبذبح الابن بالجسد لم يعد للطبيعة الإنسانية الجديدة أي إرادة لأنْ تحيا بدون بذل؛ لأن هذا الذبح هو الذي سوف يعطي الكنيسة ذلك السر الفائق، سر الذبيحة، سر المحبة الباذلة التي كانت طبيعة الثالوث التي كلها جود وصلاح ومحبة تتحرك ببذلٍ على مستوى إلهي في الحلول المتبادَل عندما يعطي الآب حياته للابن، والابن يعطي حياته للآب. ولكن على مستوى المخلوقات، هذا لا يمكن أن يصل، أي البذل الثالوثي. لأن الروح القدس الذي هو شريك الابن في تدبير الخلاص، كان يعطي كل شيء للابن: الناسوت، ويشترك معه في عمل المعجزات، بل وبه سلَّم الابن ذبيحةَ حياته على الصليب (عب 9: 14)، بذلك الروح الأزلي؛ لكي تنال الإنسانية تلك القوة الباذلة التي سوف “تذبح الموت” حسب تعبير قداسنا وصلواتنا.

وعندما مات الابن بالجسد، لم يفقد الناسوت عدم الفساد؛ لأن قبول الآب لذبح الابن هو المسرة التي جعلت الرب لم يعاني الفساد.

أمَّا عن القيامة، فإن الحلول المتبادَل أعطى للإنسانية التي ماتت، الحياة السماوية المجيدة (فيلبي 3: 21). إن مسرة الآب هي قيامة الابن المتجسد هادماً القبر، ومسرة الروح هي أن تصل المسحة إلى غايتها، وهي الإنسانية المؤهَّلة لميراث الملكوت.

كيف حدث ذلك السر الفائق؟ لدينا لمحات شحيحة في الأسفار. فقد قال الرسول بطرس إن أوجاع الموت كانت غير قادرة على أن تُخضع الابن (أع 2: 24). هذه الأوجاع هي فساد وانحلال الحياة الإنسانية. هي تعني أن الإنسان لم يعد إنساناً إذا هُدِمَ كيانه الإنساني وانفصلت نفسه عن جسده.

لقد أباد الآب أوجاع الموت؛ لأنه في محبته للابن يريد مجده، وكما يقول رسول المسيح: “لذلك رفَّعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسمٍ” (فيلبي 2: 6-8)، أي اسم الألوهة. مسرةً كاملةً جعلت كل شركاء يسوع في إنسانيته ينالون الشركة في الطبيعة الإلهية؛ لأن الاعتراف بيسوع رباً هو لمجد الله الآب (فيلبي 2: 8). وقبل ذلك يقول الرب: “أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً فينا” (يوحنا 17: 22). هو مجدٌ نالته الإنسانية في يسوع؛ لأن مجد الثالوث واحد. ومجد الابن المتجسد في حركة الحلول المتبادَل بينه وبين الآب، هي التي تجعل المجد الذي للابن هو لنا: “لكي يكونوا هم أيضاً واحداً فينا” في وحدة الحياة المجيدة. هكذا نال الصلبُ قوةً؛ لأن ما كان يمنع الإنسان عن الشركة في حياة الآب، قد أُبيد بالموت، ورُفِعَت الدينونة، وأُعطيت نعمة الحياة الأبدية.

إن سرَّ الصلبِ عميقٌ؛ لأن الحلول المتبادَل جعل الابن يقول: “إلهي إلهي لماذا تركتني”، و”لماذا” هي “ل ي ما – ليما” الآرامية، وهي صرخة استعلان السبب؛ لأن الابن أُهين واتُّهِمَ بالتجديف في محاكمته، وصلب بين اثنين، لقد نُزِعَت عنه الكرامة، والذي فعل ذلك هو البشر، وليس الآب.

لقد صُلِبَ الممسوح بالروح القدس، أي “صُلِبَ بالروح القدس”، فنقل قوة الحياة التي للروح القدس بسبب الحلول المتبادَل إلى الناسوت أيضاً، فصار في هدوء القبر غالباً الفساد، ونزل “ببرق لاهوته إلى الجحيم” لكي يدمر الجحيم إلى الأبد.

يا أحبائي، إننا في خدمة الثالوث لنا في سر الإفخارستيا، ندخل الحلول المتبادَل؛ لأن رئيس الكهنة يسوع يقدِّمُنا للآب، وبه أيضاً يحل الروح القدس علينا وعلى القربان الموضوع على المذبح؛ لأنه سبق وحَلَّ على القربان، أي يسوع نفسه؛ لكي ينقل ذلك الحلول إلينا بتحولٍ سِريٍّ لا يُفهم إلَّا سرياً للخبز والخمر.

نحن ندخل الحلول المتبادَل في رئيس الكهنة، يحملنا فيه للروح، ويحملنا الروح للآب لكي ننال “خبز الله النازل من السماء من عند الآب الواهب الحياة للعالم” (يوحنا 6: 33). وعندما نتناول من الذبيحة بالروح القدس، من يد الآباء الذين أقامهم الروح القدس لخدمة هذه الذبيحة، فإننا ندخل ذات حركة الحلول المتبادَل التي دخلها يسوع وصار “سابقاً عنا”؛ لأنه “متقدمٌ علينا” في كل شيء.

هنا يقف القلم، ولا نجد كلمات تعبِّر عن هذه الحقيقة الفائقة.

نحن في الابن، وبالابن في الآب، وفي الآب بالروح القدس، جالسين معه على يمينه (كولوسي 3: 1-2).

إلى الذي حملنا فيه، يسوع المسيح، كل مجد وكرامة.

مع محبتي

د. جورج حبيب بباوي

التعليقات

7 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة