منعُ الكتبِ استنساخٌ للعبيد

فليكن معلوماً لكل ذي شأن: لن يغيب القمص متى المسكين عن الحياة الفكرية لمسيحيي مصر. فكلما اشتد الهجوم عليه، كلما زادت مبيعات كتبه.

قد لا يدرك الذين يجترئون على منع كتبٍ، ويباركون كتباً، أنهم يقفون في خندقٍ واحد مع كل جماعات الإرهاب الفكري، بل والمسلح أيضاً؛ ذلك لأن الإرهاب المسلح، بدأ في كل عصور الإنسانية فكرةً، ومن ثمَّ تحول إلى أيديولوجية.

إنه لأمرٍ مخجلٍ حقاً، أن يقف مجمع أقدم كنائس الدنيا في خطٍّ واحدٍ مع داعش، ومع كل جماعات الإرهاب!!! هل هذه مبالغة أو تشنيع؟ أبداً. الإرهاب يبدأ برفض الآخر، والرفضُ دائماً قرارٌ يُستَغَلُ فيه الدين والاقتصاد والانتماء الاجتماعي، فرادى أو مجتمعين.

كان العصر الوسيط الأوربي عصرَ إقطاعٍ. كان للنبلاء فيه والأمراء حججٌ لاهوتيةٌ يحافظون بها على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك كان إقصاءُ العامةِ بذرةً قبعت داخل التركيب العقلي والاجتماعي، تحولت -فيما بعد- إلى أشكالٍ مختلفة مخيفة في شكلها السياسي الرهيب، كالشيوعية والنازية والفاشية، وبالتالي لم تُولد خرافة تفوق الجنس الآري من فراغ، بل كانت إحدى ثمار تخمُّر طويل المدى، جَمَعَ شرائحَ متعددةٍ من تعالي النبلاء، وتعالي الحرفيين وسطوة رجال الصناعة، بل وبعضاً من أدبيات الكنيسة التي كانت في الأصل تعلِّم بمحبة الأعداء، فصارت تشعل النار في الأحياء من الهراطقة، وهكذا ينام العنف الاجتماعي كالمارد إلى أن يأتي من يوقظه؛ لأن المساواة مشروعٌ يهدد حياة المعاقين نفسياً الذين يرفضون الآخر، فضلاً عن أنهم قد يجدون في بعض الأدبيات القديمة ما يعطي قدسيةً للقتل.

إن سقطة المجمع (المقدس) للكنيسة القبطية –بخصوص منع كتب الأب متى-أكبر من كل ما يُكتَب، وأثقل من أن يتحمل أحدٌ الدفاع عنها. هي بالحقيقة تكريسٌ لكل عنفٍ يجرد الآخر من حرية الفكر، وهو ذات عنف الإقصاء، بل هو –في النهاية- دعوةٌ للقتل المعنوى، قد تلد في زمن القهر الاجتماعي قتلاً للجسد.

لقد سبق للمجمع أن صادر كتاب “أقوال مضيئة”، وهو أكبر أنثولوجية آبائية عربية في العصر الحديث تضم فقراتٍ من كتابات وأقوال أعظم آباء الكنيسة.

سقطةٌ سابقة وقرارُ تحريمٍ بلا أسبابٍ معلَنة.

والآن، قرارٌ بمنع بعض أو كل كتب القمص متى المسكين، في الوقت الذي يحرص فيه د. القس سامح موريس على توزيع ما يمكن وصفه بالمؤلفات الروحية منها. عجبٌ وأيُ عجبٍ!!!

وهنا يجيء قرار المجمع (المقدس) بمثابة خدمة لا تقدر بثمن لأكبر حركة تبشير في مصر يقودها د. سامح موريس، عجز أسقف ما يسمى بأسقفية الشباب عن التصدي لها أو حتى القيام بنهضة موازية. وهنا أيضاً يزداد العجب!!!!

ألا يعلمون أن استنساخ العبيد، فضلاً عن أنه تعدِّ على نعمة البنوة، هو ديدن النظم الاستبدادية؟ فهل تساوى المجمع بأحد هذه النظم؟!!!

لقد سبق أن مُنعت رواية “مزرعة الحيوانات” للكاتب البريطاني جورج أورويل. وسبق لي أن حاولت إقناع مؤسسة أكتوبر بنشر ترجمة عربية لكتاب ديفيد براون عن “تكنولوجيا الإغراء، وغسيل العقل”، وجاءت اعتراضاتٌ كثيرة. وأدركت أن الرفض ليس حمايةً للوطنية، ولا هو دفاعٌ عن تراث مصر، بل هو الحرص على ألا نفكر، ويبدو أن ذلك هو ذات ما يحرص عليه المجمع (المقدس)!!!

ألا يعلم الذين يحرصون على استنساخ العبيد أن الأحرار سوف يتركون الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولن يبقى فيها إلا العبيد؟ هؤلاء سوف يفقدون القدرة على أن يقولوا شيئاً أو يسألوا عن شيءٍ طالما أن “سيدنا قال”. بل أنبئكم بأنه سوف يحدث ما هو أفظع وأفزع وأشر من كل هذا حين يصبح الوعي تحت سيطرة سلطة دينية تمارس الإقصاء وتنقل وعي الشخص إلى خارج الشخص، فلا يفكر -عندئذٍ- في حرية، بل يفكر حسبما يقال له، وحسبما تريد له السلطة أن يفكر.

عندما تُنزع إرادة الشخص منه لتصبح ملكاً لآخر، هل يختلف ذلك عن منهج داعش، ومنهج جماعات الإرهاب كلها، مهما تنوعت الأسماء؟

وماذا يمكن أن يتبقى من شخصٍ تم استنساخه عبداً، أراد أو لم يُرِد؟

دكتور

جورج حبيب بباوي

التعليقات

4 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة