الحلول المتبادل لأقانيم الثالوث – 2

المشكلة الأولى هي تصدي البحث اللغوي لسر المسيح:

يكاد تجسد رب المجد يصرخ ألماً صارخاً في وعينا أنه لم يكن فكرةً تعبِّر عنها الكلمات مهما كانت، بل حقيقة اتحاد أبدي تشهد له الكلمات: “الكلمة صار جسداً”. وعندما حاول بعضُ أذكياءٍ عبر تاريخ المسيحية، فهم سر المسيح، عثروا وسقطوا لسببين:

الأول: هو إخضاع ما هو غير مألوف لما هو مألوف. السرُّ غيرُ مألوفٍ، وغيرُ عاديٍّ، ولا يمكن أن يحاصره ما هو مألوفٌ وعاديٌّ من إيقاع الحياة كما تعبِّر عنه اللغة.

فالولادةُ مثلاً، تعني فعلاً في الواقع الإنساني، هو انفصال المولود عن الأم، وتعني دائماً أن الأب سابق في عمره عن ابنه. هكذا فهم أريوس -ولم يكن غبياً- سر ولادة الابن الأزلية، وهو بذلك يكون قد نقل الولادة المألوفة إلى ما هو غير مألوفٍ وعادي، أي إلى الثالوث، فسقط في أشهر بدعة عرفتها المسيحية، لا زال تلاميذه يجولون العالم باسم جديد هو “شهود يهوه”.

الثاني: هو محاصرة السرِّ نفسه المعلَن في علاقة جديدة تختلف عن أي علاقة أخرى نعرفها من وعي الحياة الإنسانية. وهو حصارٌ يفرضه العقل بالعودة إلى أصل الكلمات في أي لغةٍ نشاء. وبقاءُ البحث في دائرة استعمال الكلمات -مهما كانت- لكي تصبح الكلمات أو المصطلحات قيداً حديدياً، لا سيما إذا تمت محاصرة فكرة من الأفكار في إطار البحث اللغوي.

كان أنوميوس -وله بدعة خرجت من رحم الأريوسية- هو أول من قال إن اختلاف الأسماء يعني اختلاف الطبائع، وطبَّق هذا على الثالوث، مثل أريوس، فصار الآبُ اسماً يختلف لغوياً، عن اسم الابن، وبالتالي تختلف طبيعة الآب عن طبيعة الابن.

فكرةٌ سهلة القبول، ولكنها حاصرت الثالوث في العلاقة الزمانية التي تعبِّر عنها اللغة، حيث الأب ليس أبَاً إلَّا في حالة واحدة، هي ولادة ابن له. أما على مستوى الثالوث، فإذا كان الله الآب هو الآب أزلياً، فهو لا يمكن أن يكون آباً إلَّا بالابن الأزلي.

خلاصة رد أثناسيوس الرسولي وباسيليوس الكبير: إن ما هو كائن في الواقع والحياة، يسبق اللفظ.

الترجمات العربية المعاصرة:

          جاءت سرعة النشر في العصر الحديث بنقلٍ هائلٍ للمعلومات في زمن قصير. على أن سرعة النشر هذه لا تعفينا من رصانة البحث، بل هي بالأولى تفرضها علينا. وحتماً، النقل من اليونانية أو العبرانية أو غيرها إلى لغتنا العربية، يجب أن يخضع للفحص الدقيق في ضوء ما يأتي:

أولاً: في نور ما استقر من ثوابت تعبِّر عنها العقيدة.

ثانياً: في الكشف عن ضعف التحليل اللغوي، إذا كان هذا في النهاية لا يخدم الثوابت لدينا، خصوصاً في عقيدتنا في الثالوث والتجسد والروح القدس والسرائر.

ثالثاً: العودة دائماً إلى ما هو مستقر وثابت في التسليم الكنسي، وبحث كافة المصطلحات اللاهوتية في كل مراجع الآباء، وليس في سطر أو سطرين، أو في عبارة واحدة مهما كانت، طالما أن الهدف هو تأكيد العلاقة الجديدة غير المألوفة وغير الخاضعة لما هو مألوف؛ لأن الثلاثة في واحد، والواحد في ثلاثة، ليس موضوعاً له ما يقابله في العالم المادي كله يمكن أن نقارنه بالثالوث.

          هذه التحذيرات الثلاثة تقود إلى بحث الكلمة اليونانية Perichoresis فقد أخطأ كل من J. Moltmann – La Cugna – L. Boff بل وزاد في الخطأ Boxter Kruger الذي خلق برنامجاً لاهوتياً باسم Perichoresis واسع الانتشار، وكانت علة خطأ كل هؤلاء، أنهم عادوا إلى اليونانية الكلاسيكية لترجمة المصطلح على أنه رقصٌ كونيٌّ للثالوث.

          ويبدو وجه الخطأ التاريخي في الآتي:

أولاً: هذا المصطلح استخدمه القديس غريغوريوس النزينزي للاتحاد اللاهوتي بالناسوت، ولم يستخدم للثالوث إلَّا بعد تعديلات كثيرة عند مكسيموس المعترف، ثم بوفرة عند يوحنا الدمشقي.

ثانياً: إن أول مرة يظهر فيها هذا المصطلح كانت في رسالة النزينزي إلى كلودنيوس القس ضد أبوليناريوس حيث يشرح عبارة الرسول بولس: “الإنسان الثاني الرب من السماء” مؤكداً أن إنسانية الرب ليست من جوهر إلهي، بل هي مثل إنسانية كل البشر، ويقول: إن يسوع يحل فينا روحياً بالروح القدس. وعند الكلام عن اتحاد الطبيعتين يقول: “الاسماء تمتزج معاً مثل الطبيعتين، وتنساب Perichoro كل طبيعة في الأخرى حسب قانون الاتحاد” (مقالة 101: فقرة 4). وهذا ليس رقصاً، بل هو اتحاد الطبيعتين في حركة الاتحاد، ولذلك تُرجم الفعل اليوناني إلى Flowing بمعنى تنساب أو تتدفق، أي أن كل طبيعة تنساب أو تُسكب أو تتدفق في الطبيعة الأخرى. ولذلك جاءت ترجمة L. Prestige أدق على أن حركة الاتحاد هي Passing reciprocally أو Interchange with (مقالة في مجلد الدراسات اللاهوتية عدد 29-1928 – ص 242 بعنوان Perichoreo and Perichoresis in the Fathers).

ورغم محاولات تقديم استعارات وتشبيهات لا بأس بها لشرح حركة الاتحاد، إلَّا أن ما غاب عن كل هذه المحاولات هو:

1- إن هذا الاتحاد هو اتحادٌ شخصيٌ، أي أقنومي لا يخضع لأي تأويل مهما كان صدقه.

2- إن حلول كل طبيعة في الأخرى هو حركة المحبة الإلهية التي تجعل الإنسانية التي أخذها المخلص من والدة الإله تنساب أو تتحرك، ليس حركةً ذاتيةً، أي حركة طبيعية، بل حسب عبارة النزينزي نفسه: “حسب قانون الاتحاد”، وهو اتحاد أُقنومي يجعل غريغوريوس يستعمل كلمة “امتزاج” كتعبير عن قبول حقيقي للإنسانية بواسطة الله الكلمة وقبول الإنسانية ألوهية الكلمة بنفس الحرية والمحبة.

3- إن الإرادة الانسانية لم يُبعدها الله الكلمة بسبب الاتحاد، بل كما حُدِّدت الصياغة اللاهوتية بعد ذلك: إرادة واحدة من إرادتين، إرادة إلهية – إنسانية؛ لأن العمل الإلهي هو عملٌ إلهيٌّ – إنسانيٌّ، أو حسب التعبير الذي ساد في القرن الخامس: لأن الاتحاد لم يلغِ الفروق الكيانية بين الطبيعتين (القديس كيرلس الاسكندري الرسالة الرابعة ضد نسطور – المقالة الثانية ضد نسطور مجلد 75: 1292).

الموت والحياة، والحياة والموت:

          في المقالة (18) يتحدث غريغوريوس عن نياحة والده، وعن الموت والحياة. والموت والحياة كلاهما مختلفٌ عن الآخر، ويقول: “الحياة والموت -كما نسميهما- كلُّ منهما مختلف عن الآخر، إلَّا أنهما Perichorei كلٌّ في الآخر” (فقرة 42). وحسب الترجمة الإنجليزية هما “Resolved“، أي يقرر الآخر؛ لأن بقية العبارة: “الحياة والموت -كما نسميهما- كلُّ منهما مختلف عن الآخر، إلَّا أنهما يقرران معاً كلٌّ الآخر في كيف يخلق كلٌّ الآخر”. فالحياة في الموت كما أن الموت في الحياة. هذا ليس لغزاً فلسفياً؛ لأن الأم التي تلد للحياة، تلد أيضاً للموت، ولذلك تخترق الحياةُ الموتَ، ليس لأنها ترقص، بل لأنها تختلط بالموت، أو إن شئنا الدقة Interpenetrate لكي تولد الحياة الجديدة.

التجسد الإلهي واتحاد الطبيعتين:

          تُعد المقالة (30) التي كتبها القديس غريغوريوس النزينزي، كلها وبالذات الفقرة 6: 1 من أهم الفقرات التي تعبِّر عن ديناميكية تجسد ابن الله وليس سكونية Static تجسد الكلمة، لسببٍ واضح، وهو أنه شخصٌ حيٌّ متَّحدٌ بالآب وبالروح القدس كإله، ويفتح ذات الاتحاد في أقنومه للإنسانية الغريبة كيانياً وروحياً عن الابن نفسه، وعن الروح القدس، وهكذا يكتب غريغوريوس:

“من صفات صورة العبد (التي قبلها الرب) أنه يتنازل (أي العبد) إلى رفاقه العبيد، وحقاً تنازَل وأخذ (صورة) رفاقه العبيد الغريبة عنه لكي يحمل كل ما يخصني، بل يحملني أنا في ذاته لكي يبيد في كيانه كل ما هو شرير، كما تبيد النار الشمع، أو كما تُبدد الشمس ضباب الأرض؛ حتى ما أشترك أنا في طبيعته بالامتزاج بها. لهذا هو يكرم طاعة عمله (الذي عمله عندما تجسد) ويبرهن على ذلك بالمثال الذي أقامه عندما تألم ..” (30: 6-1).

إذن، ما هو شرير قد أُبيد، والشركة تحدث على مستوى كياني عندما تمتزج حياة الله الكلمة المتجسد بحياة غريغوريوس؛ لأن المسيح يحمل كل ما يخص غريغوريوس، أي الطبيعة الانسانية، ولكن غريغوريوس لا يتكلم عن فكرةٍ، بل غريغوريوس كشخص، وهكذا يعبِّر الفعل يمزج Perichoreo عن تلك الحركة الديناميكية التي يبيد فيها الابن الكلمة، الشر.

نهاية الدهور – الله الكل في الكل (1كو 15: 28):

          نهاية الدهور، أي عندما يسلِّم الابنُ المُلكَ لله الآب، وهو “زمن رد كل شيء إلى ما كان سابقاً”([1]) ويشرح أسد كبادوكية عبارة الرسول: “الله سيكون الكل في الكل في زمان إعادة كل شيء (أو رد كل شيء إلى ما كان عليه) هذا لا يعني أن الآب سيكون وحده هو الله، بل والابن سوف يمتزج به مثل امتزاج شعلة النار التي أُخذت من الآتون حيناً، ثم أُعيدت إلى الآتون” (مقالة 30: 6-2). ومرةً ثانيةً، قدَّمت الترجمة الانجليزية الكلمة resolve لتشرح ما هو المقصود بحركة Perichoresis رغم أن أسد كبادوكية استخدم الفعل وليس الاسم؛ لأن كل استخدام للفعل يؤكد عدم سكونية العلاقة بين الآب والابن، وعودة الشعلة إلى الآتون، يعني وحدانية الجوهر.

الجوهر الواحد للثالوث:

          في المقالة (31) وفي الفقرة (14) يقدم غريغوريوس شرحاً لجوهر الثالوث، فيقول: “الألوهة -كما يجب أن نتكلم- لا تنقسم إلى ثلاثة أقانيم متباعدة. بل يوجد نورٌ واحد يمتزج بالكل ،كما لو كان نورُ ثلاثِ شموسٍ متَّحدةٍ كلٍّ بالأُخريين”. وهنا لابد من العودة إلى الكلمة اللاتينية الأصل Coinherence حيث يبدأ هنا استخدام التعبير في علاقة أقانيم الثالوث بعد أن كان خاصاً بالتجسد.

بقية الفقرة هامة جداً: “نؤمن بإله واحد؛ لأن الألوهة واحدة، وكل ما يصدر عن الألوهة، يُوصَف بالواحد، رغم أننا نؤمن بثلاثة أقانيم؛ لأن كل أقنوم ليس أقل ولا أزيد من الاقنومين الآخرين؛ إذ لا يوجد واحد قبل ولا بعد الأقنومين؛ لأن الأقانيم ليست منقسمة إرادياً ولا منفصلة (بالقوة الذاتية) لأي منهم ..”.

خلاصة وتقييم:

          لعل الحافز الأساسي لكتابة هذا المقال هو ترجمة الكلمة اليونانية Perichoresis إلى “احتواء”، وهو ما لا نوافق عليه للأسباب الآتية:

أولاً: لأن الفعل الذي ورد على لسان الرب يسوع نفسه هو فعل (يحل): “أنا في الآب والآب فيَّ”. وأيضاً: “الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال التي أعملها أنا”. والعبارة الأخيرة تؤكد وحدانية الإرادة، رغم وجود إرادة خاصة بالآب، وإرادة خاصة بالابن، إلَّا أن الإرادة هي إرادة “مثلثة”، إرادة واحدة لكل أقنوم، وإرادة مثلثة وواحدة للثالوث.

خطورة الاحتواء تبدو في أنه ينفي ديناميكية حرية وحركة المحبة. لأن اللاهوت يعمل بواسطة الناسوت، وهو ليس عملاً آلياً تنعدم فيه الإرادة والمحبة الإنسانية، أو أنها تحتوى، بل تتحد بالإرادة الإلهية وتصبح إرادة واحدة من إرادتين.

ثانياً: إن احتمال خطأ الترجمات العربية وارد عند الكل، وهذا ليس تشنيعاً أو تشهيراً بأحد، كما يفعل واحد من الإكليروس، بل لأننا نحاول خلق كلمات عربية لِما ساد في اللغة اليونانية، وهي بكل تأكيد -كما كشفت الدراسات المعاصرة- لم تكن اللغة اليونانية الكلاسيكية، بل كانت لغة الترجمة اليونانية المعروفة باسم السبعينية، وهي تطور هام في اللغة اليونانية يجب أن يؤخذ بكل اعتبار واهتمام، لا سيما عند مراجعة مصطلحات العهد الجديد والآباء معاً لاكتشاف الفروق بين الاستعمال القديم والاستعمال الجديد الذي وُلِدَ في داخل صراع الكنيسة الجامعة مع الهراطقة.

أخيراً: إن تجسد ابن الله، والثالوث، ليسا من موضوعات الفلسفة الكلاسيكية اليونانية، بل هو استعلان غير مألوف، ويجب أن يبقى في إطار سر المسيح المعلن:

أ- في الأسفار.

ب- وفي العلاقة الجديدة التي جاء بها الوسيط الرب يسوع المسيح، والشفيع روح الآب الذي يقودنا إلى معرفة الرب (1كو 12: 3).

 

قبسٌ من القديس غريغوريوس اللاهوتي

 

أُصلِّي في الابن الرأس والوسيط

يحركني روح يسوع إلى خلاصي ومصيري، يسوع

أُصلِّي بالروح إلى ربي ومخلصي

يحركني من محدوديتي، وبه أدخل حضن الآب

أُصلِّي للآب في الوسيط والكاهن العظيم

يطهِّرني من جهلي ويعطي ليَ نقاوةَ الرؤيا

في يسوع أنا في الروح، وفي الروح أنا في الآب

وفي الآب قدَّسني المخلِّصُ

***

يا لِسرِّ يسوع الفائق الذي لا مثيل له

تعطي الاستنارة يا يسوع لكي نأتي

ذراعيك التي امتدت على الصليب

ممتدة في كل حين

تنقلني من موت فكري إلى نور حياتك

ترفعني من هوة الأنا إلى الامتلاء من روحك

تقدمني للآب قرباناً مختوماً بذبحك

يري فيَّ الروح القدس، رسمك يا فاديَّ

بل أتحرك في الحياة الالهية

من الآب بالابن في الروح

ومن الروح في الابن

إلى الآب

آخذ التقديس من الروح

الفداء من الابن

المصير الأبدي من الآب

آخذ في، ومن

لكي أبقى مع حركة

المحبة للحلول المتبادَل.

دكتور

جورج حبيب بباوي



([1]) ليس هذا هو الخلاص الشامل Universalism كما يُشاع، بل هو تجديد الخلقة الذي ليس له شرح كامل منظم لأنه غير مُعلن، بل هو رد كل شيء أو restitution.

التعليقات

3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة