المجمع المقدس يبحث عن وصية!!!

بدايةً، لا يجب أن يكون ما يدور في أروقة المجمع المقدس من الأسرار التي ينبغي أن يلفها الصمت؛ لأن هذه الاجتماعات خاصة بحياة الكنيسة كلها، وبالتالي هي ليست شأناً خاصاً.

فقد اجتمع المجمع المقدس لكنيستنا القبطية في 19 نوفمبر الماضي، وكان ضمن جدول الأعمال، مناقشة التعليم الشعبي السائد عن منع المرأة من التناول في فترة الـ 40 يوماً والـ 80 يوماً بعد ولادة طفل ذكر أو طفلة أنثى .. وللأسف، لم يأخذ المجمع قراراً باتاً في هذا التعليم. وسمعنا من البعض أنه كان هناك شبه إجماع عام على أن الولادة وما يعقبها ليست نجاسة، وبالرغم من ذلك ظلَّ التعليم الشعبي بعدم التناول موضوعاً معلقاً! وكان الاعتراض الوحيد الذي يستحق التعليق عليه، هو أنه ليس لدى الكنيسة وصية من الرب يسوع نفسه تؤكد إلغاء هذه الممارسة.

اعتراضٌ يبدو للوهلة الأولى أنه لائق، ولكن ما أن تتناوله بقليلٍ من التأمل، إذ به يكشف عن “يهوديةٍ” ضاربةٍ بجذورها في فكر صاحب الاعتراض، بل وفي قلب الذين وافقوه ولم يعترضوا عليه.

تعالوا نفكر معاً حسب الأسفار، لا حسب العواطف الهوجاء.

هل لدينا وصية من الرب يسوع بإلغاء الختان؟ الجواب: بكل يقين لا. وقد يقول قائلٌ إن الرب يسوع نفسه اختتن في اليوم الثامن، وهو قولٌ صحيح، ولكن حجةُ القائلين بأن الرب يسوع نفسه خُتِّنَ في اليوم الثامن، هي حجةٌ ساقطة تماماً؛ لأنه “وُلد تحت الشريعة أو الناموس” (غلا 4: 4 – لوقا 2: 21). وبالرغم من أن يسوع نفسه كان قد ولد تحت الناموس أو الشريعة إلَّا أنه هو نفسه من أثار مسألة حفظ السبت مع اليهود، وهي وصية يكسرها كل أب وأم، إذا جاء موعد الختان في يوم سبت، إذ يجب ختان الطفل حسب الوعد مع ابراهيم (يوحنا 7: 22)، بغض النظر عن السبت. وهكذا يسبق الوعد الإلهي، أحكام الشريعة، وهو محور أساسي في دفاع رسول الرب عن بشارة الإنجيل وصحتها في كل رسالة رومية، عندما يكتب: “لأنه ليس بالشريعة (الناموس) كان الوعد لابراهيم ..” (رو 4: 13). وكذلك الأمر في رسالة غلاطية، التي يخاف المتهودون من دراستها لا سيما في عظات ذهبي الفم، حيث يقول رسول الرب: “أقول هذا إن الشريعة (الناموس) الذي صار بعد 430 سنة لا ينسخ عهداً قد سبق وقرره الله في المسيح حتى يبطل الوعد” (راجع الأصل القبطي واليوناني لنص غلاطية 3: 17).

إذن، أيهما يعلو: العهد (أو الوعد) الذي سبق أن قرره الله في المسيح، أم الناموس (الوصايا)؟

دعونا نرى كيف عالج الرسل موضوع الختان في أول مجمع كنسي حقيقي، عُقد ضد دعوة التهود، وكان دعاة التهود قد قالوا عن الختان إنه هو علامة العهد مع إبراهيم …. كيف قال الرسل: “قد رأى الروح القدس ونحن” (أع 15: 28).

كان المقصود بالدعوة إلى التهود: الختان وحفظ الناموس (أع 15: 24). ولكن الآباء الرسل اعتبروا أن هذه الدعوة ليست فقط “مزعجة”، بل قالوا عنها: “مقلِّبين أنفسكم وقائلين أن تختنوا وتحفظوا الوصية” (أع 15: 24)، لذلك لم يُصدر مجمع الرسل قراراً بإلغاء الختان كأحد بنود دعوة التهود، بل قالوا: “لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة، أن تمتنعوا عن:

– ما ذُبِح للأصنام

– عن الدم

– عن المخنوق والزنا (أع 15: 29).

وبالتالي زالت كل الفرائض الأخرى.

وهنا يثور التساؤل: ألا يتخذ المجمع المقدس لكنيستنا القبطية، مجمع أورشليم، نموذجاً يحتذى، فيصدر قراراً متوجاً بـ “قال الروح القدس ونحن”؟ طبعاً، لو كان من أبدى الاعتراض، ومن قبلوه في قلوبهم، يؤمنون بأنهم يأخذون عطية الروح القدس لا مواهبه فقط، لأمكنهم عندئذٍ أن يصدروا هكذا قرار.

ما هو الصك الذي كان علينا؟

الصك الذي كان علينا لم يكن هو سقوط آدم، ولم يكن دفع ديون آدم، أو إيفاء العدل الإلهي حقه([1]) -كما يدعي اللاهوتي الأوحد علَّامة دمياط وكفر الشيخ- بل كان هو فرائض الشريعة. ولكي ندرك أن الرسول يتحدث عن موضوعٍ أعظم من سقوط آدم، علينا أن نعود إلى المعنى الكلي الظاهر بوضوح في الفقرة كلها. يقول الرسول:

-1-

“كنتم أمواتاً في الخطايا وغلف أجسادكم

أحياكم معه

مسامحاً لكم بجميع الخطايا

-2-

إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض

الذي كان ضداً لنا

وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه في الصليب

-3-

فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور الآتية” (كولوسي 2: 13-16).

موت الخطية ظاهرة كونية

غلف الجسد لم يعد له أية دلالة بالمرة؛ لأن العائدين إلى الله من الأمم قد نالوا ختان المسيح في المعمودية، وهو ليس ختاناً صُنع باليد، أي بواسطة البشر (كولوسي 2: 11).

هكذا حذف الرسولُ الشريعةَ في الفقرة الأولى، وفي الفقرة الثالثة في سطرٍ واحد، ألغى كل ما نعرفه عن اليهودية:

– الأكل والشرب

– الأعياد

– طلوع الهلال لتحديد موعد الفصح،

– بل السبت

فهل كان لدى الرسول وصية، عندما قال إن كل هذه هي ظل الأمور الآتية في المسيح؟

الصكُ هو وثيقةٌ مكتوبةٌ فعلاً لدينٍ يجب أن يُدفع، ولكن في أشعياء (43: 25) يقول الرب نفسه: “أنا هو الماحي ذنوبك ولن اتذكر خطاياكم (س)”. إذن، الصك هو الفرائض كما قال الرسول، وليس هو الخطايا، بل هو δόγμασίν أو الوصايا أو الشرائع أو القانون. ولذلك يتحدث الرسول هنا عن تعدي الشريعة، وتعدي الفرائض (بالجمع)، وليس وصية عدم الأكل من الشجرة. المقصود هنا هو شريعة موسى، والدليل على ذلك في الفقرة الثالثة يقول الرسول: “لا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو جهة عيد أو هلال أو سبت”.

رفَعَه من الوسط

حسب ترجمة كنيستنا نقرأ النص القبطي:

“وقد نقله بعيداً، أو بالحري أزاله من الوسط” (أي من علاقة الله بالإنسان؛ لأن الفرائض كانت هي الوسيط، وقد صار المسيح الرب هو الوسيط الواحد “مسمِّراً إياه في الصليب”.

هل لدينا وصية من المسيح تقول بأن الإنسان هو هيكل الله، أي هيكل الروح القدس؟

هل تريدون وصيةً تقول إن الإنسان في العهد الجديد هو هيكل الروح القدس، أم أن هذا هو واقع الأمور؟

يقول الرسول: “أنتم هيكل الله” (1كو 3: 17) والجسد هو “هيكل الروح القدس” (1كو 6: 19)، لماذا؟ لأن الإنسان عندما يُقدَّس بالتغطيس في مياه المعمودية، ويحل فيه الروح القدس بمسحه وختمه بسر الميرون 36 رشماً يصبح هيكلاً لله، فكيف يعود الإنسان (هيكل الله) إلى الأركان الضعيفة؟ أقول مرةً أخرى: هل ترك الرب لنا وصيةً تقول إننا هيكل الروح القدس؟

أكتب هذا بقلبٍ حزين على فقهاء شريعة موسى طالبي الوصية.

هل لدينا وصية عن تشييد كنائس وتدشين مذابح؟ أم أن وحدة السماء والأرض جعلت الكنيسة، الشاهد المنظور على حضور الله في وسط الشعب؟

هل لدينا وصية بأن الأحد صار هو سبت المسيحيين؟

وإذا كانت وصية السبت قد كُتبت في لوح من حجر، وهي الوصية الرابعة، فلماذا إذن لا تنضمون إلى السبتيين وشهود يهوه؟

أولم يكن الشهيد اغناطيوس يدرك أن القيامة هي شمس الحياة الجديدة التي أشرقت في اليوم الثامن، وأن بداية العهد الجديد هو بقيامة الرب “اليوم الذي صنعه الرب” يوم حياتنا، أي المسيح؟ ولأنه كان يدرك ذلك ويدريه تماماً، تجده يكتب: “الذين عاشوا بمقتضى العادات القديمة قد قبلوا الرجاء الجديد، وتحرروا من شريعة السبت ليعيشوا يوم الرب الذي طَلَعَت حياتنا فيه (المسيح) وبموته، فكيف ينكر بعضهم أننا بهذا السر نلنا الإيمان” (الرسالة إلى مغنيسيا 9: 1-3).

لكن، ماذا تعني العودة إلى العادات القديمة؟ وماذا يعني المضاد لهذا، أي رفض الحياة حسب القيامة، إلَّا إعادة أسر الإنسان إلى التدبير القديم، الذي اقتضاه فصل شعبٍ عن باقي الشعوب الوثنية، ولهذا جاءت أسفار اللاويين والتثنية بوصايا جسدانية قائمة بقرابين وذبائح لا يمكن من جهة الضمير أن تكمِّل الذي يخدم. وهي قائمة بأطعمة وأشربة وغسلات وفرائض جسدية فقط موضوعة إلى وقت التجديد” (عب 8: 10-11).

إنكار فاعلية السرائر بالممارسة:

حسب صلوات سر المعمودية، نحن نصبح:

– هيكلاً للروح القدس

– نُعتَق من عبودية الفساد

– نمتلئ من القوة الإلهية

– متشبِّهين بالابن الوحيد ربنا يسوع المسيح صائرين واحداً.

– انتقلنا من الظلمة إلى النور

– انتقلنا من الموت إلى الحياة

– نُولد مرة أخرى بحميم الميلاد الجديد

– دُعينا إلى النور الطاهر

– الامتلاء من قوة الروح القدس

وأكثر من ذلك

-“لا يكونوا بعد أبناء الجسد، بل أبناء الحق

– قبول الروح القدس (وليس مجرد قوة).

وفي المعمودية ننال:

– “خاتم المسيح

– نصير حُلة نورانية

– نلبس لُباس الخلاص

– خرافاً ضمن قطيع المسيح

– بنيناً للخِدر السمائي

– وارثين الملكوت غير الفاسد الأبدي

فهل يمكن بعد أن يقول الكاهن: “جدِّد ميلادهم بالحياة الأبدية”، وبعد كل ما ذُكِرَ من نِعم نُقِلَ فيها الإنسان من التدبير القديم كله، وصار له ميلاداً جديداً أبدياً، بل هل بعد أن يقول الكاهن: “لكي لا يصيروا أبناء الجسد، بل أبناء الملكوت”، هل يعقل بعد هذا كله أن تقول لهم الممارسة أن كل هذا ذهب أدراج الرياح، لأنكن يا من تلدن قد عُدتن بالولادة إلى الأركان الأولى الفقيرة الجسدانية؟ بل هل يعقل أن تصير هؤلاء الأمهات اللاتي “تصوَّر المسيح فيهن بصبغة الميلاد الجديد”، مثل نساء العهد القديم؟!!!

ولكي نزيد الأمر إيضاحاً، نقول -قياساً على ذلك- إن كل الصلوات التي تقال من أجل تقديس مياه المعمودية، تذهب أيضاً أدراج الرياح:

– ماءً لحميم الميلاد الجديد                    أبطلته الممارسة

– حياةً أبدية                                  صارت ترابية خاضعة للشريعة

– لُباس غير فاسد                             فسد بالقانون الطبيعي أي بالولادة

– نعمة البنوة                                  زالت، وعادت عبودية الشريعة

وقبل التغطيس يقول الكاهن:

– “لكي يخلع الذين يعتمدون منه الإنسان العتيق الذي يفسد كشهوات ضلاله ويلبسوا الجديد الذي يتجدد مرة أخرى كصورة خالقه”، ولكن -طبقاً لهذه الممارسة الفاسدة- صارت صورة الخالق هذه -ويا للعجب- غير مؤهَّلة لطعام الحياة الأبدية، في حين أن ما يمنع من شركة السرائر هو الارتداد عن الإيمان – الهرطقة – الحرمان الكنسي الذي صدر من مجمع، أما غير ذلك، فإن أي قرار يمنع التناول، يعني العودة إلى شرائع تفصل الإنسان عن نعمة الله في ربنا يسوع المسيح.

مسحة الميرون:

طبقاً لهذه الممارسة الفاسدة يصبح رشم كل أعضاء الجسد بالـ 36 رشماً لا لزوم لها بالمرة؛ لأن ولادة طفل أصبحت تُبطِل هذه الرشومات، وهي لا تُعاد مثل سر المعمودية، فكلاهما يعطى مرة واحدة.

– مسحة عربون ملكوت السموات – لم تعد تنفع، فقد ولدت الأم.

– دهن شركة الحياة الأبدية غير المائتة – عادت الحياة إلى حكم الموت.

– مسحة مقدسة للمسيح إلهنا وخاتم لا ينحل – يجب أن ينحل بالولادة.

– كمال نعمة الروح القدس – يظل الروح القدس غريباً، إذ لم تعد الأم هيكلاً للروح القدس.

سر السرائر، جسد الرب ودمه:

الذبيحة الطاهرة التي تطهرنا إلى الأبد. و”الذبيحة الطاهرة” هي ترجمة للأصل اليوناني القبطي “مقدسة”؛ لأنها قُدِّست بذات الروح القدس الذي أُعطيَ في سر الانضمام إلى جسد الرب، أي الكنيسة، وهو الذي يقدِّس كل شيء، تقديساً أبدياً؛ لأن الذبيحة هي:

– الذبيحة الإلهية

– الذبيحة غير المائتة.

– الذبيحة السمائية

وماذا يحدث لنا وللأمهات اللاتي يتناولن قبل الولادة؟ هل أخذوا شيئاً، أم اتحدن بالمسيح الرب الذي ليس هو شيء حتى يمكن تدميره أو إبطاله؟

هؤلاء هم “جسد واحد وروح واحد” مع الرب ومع الشعب كله، فكيف وبأي حق يمكن لأي إنسان -مهما كان- أن يمنع هؤلاء من المائدة السمائية؟

كل إجابة على هذا السؤال، يجب أن تكون إجابة نعمة، وليس إجابة شريعة. الموانع السابق ذكرها تجعل المرأة الأم مثل المرتد – الهرطوقي – الذي ارتكب فعلاً فاضحاً، ومنع من التناول لأنه مقيَّد مع التائبين ..

أما الولادة التي جاءت بكل هؤلاء الأساقفة من تلاميذ موسى، فهي لم تكن ضد النعمة، بل جاءت بكل أغصان الكرمة الإلهية جسد المسيح الكنيسة.

ما هي دلالة البحث عن وصية؟

عندما قال لي القمص مينا المتوحد أبي الروحي في عيد تجسد الرب 1958 أن أحفظ التسبحة؛ لأن التسبحة تُعيد الوعي بعظمة تجسد الرب، فقد عاد بعد ذلك ليقول لي إن التسبحة لا تمجِّد القديسة مريم فقط، بل تُعظِّم تنازُل الابن الوحيد إلينا، وكان يحب مرد: “هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له”. وقال أيضاً: إننا نحتاج للعمر كله لكي نستوعب ما جاء به تجسد الرب من تجديد.

وكان القديس اثناسيوس هو الذي أكَّد منذ 1600 سنة أن ما كتبه هو قليل جداً: “الأعمال التي حققها المخلص بتأنسه عظيمة جداً في نوعها، وكثيرة في عددها، حتى أنه إذا أراد أحد أن يحصيها، فإنه يصير مثل الذين يتفرسون في عرض البحر ويريدون أن يُحصوا أمواجه .. فمن الأفضل ألَّا يحاول الإنسان أن يتحدث عنها كلها مادام لا يستطيع أن يوفي ولو جزء منها حقه .. فإننا نترك باقي الأعمال كلها للتعجب منها” (تجسد الكلمة 54: 4 ص 160-161 ترجمة د. جوزيف فلتس).

إن عدم استيعاب التجسد، وما حققه المخلص بتأنسه، كفيلٌ ليس فقط بالبحث عن وصية من الرب يسوع تسمح للمرأة بتناول الأسرار المقدسة، بل يؤدي بنا في النهاية إلى التردي في هاوية الارتداد الكامل عن نعمة ربنا يسوع نحو الناموس والشريعة.

نحن في حاجة ماسة وشديدة جداً لأن نستوعب سر تأنس الابن الوحيد.

إن الصمت إزاء التعسف مع الأمهات أولاً؛ لأنهن نجسات، ثم ثانياً؛ لأنهن لا يستطعن التناول، هو إنكارٌ صريحٌ للإيمان وللنعمة الأبدية التي تعطى في السرائر.


([1]) راجع مقالة الأنبا بيشوي “عقيدة الفداء والكفارة” ابتداء من ص 3 إلى أخرها.

التعليقات

6 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة