التسليم الكنسي – 4

تنقية القلب والإرادة- 2

ليس لدينا تعليم مسيحي شرقاً وغرباً يقول إن الإنسان يخلص بالأعمال الصالحة، وليس لدينا تعليم أفرزه الإنجيليون عن التبرير بالأعمال، أو تعليم عن حساب بر المسيح للخاطئ. هذه كلها معاً: الخلاص بالأعمال الصالحة، وحساب بر المسيح للخاطئ، هي خزعبلات العصر الوسيط.

كان أبي يعلمني أن المحبة هي أساس “الخلاص الأبدي”. لاحظ كلمة “الأبدي”، وليس مجرد الإقلاع عن عادات سيئة أو التوبة بمعنى الكف عن الخطايا. هذا المعنى كان هو السائد في فترة طويلة امتدت من الأربعينات في القرن الماضي حتى عصرنا هذا. ولكن “الخلاص الأبدي” هو اكتشاف المحبة الإلهية على النحو الذي ذكره رسول الرب في (1كو 13: 1-10). وكان أبي يقول أيضاً إن ما أورده الرسول عن المحبة هو رسمٌ لأيقونة المخلِّص الرب يسوع المسيح له المجد.

الأساس الرسولي للمحبة هو: كل مَن لا يعرف المحبة لا يعرف الله (1 يوحنا 4: 7 – 8). ويجب أن نضيف أيضاً أن: “محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس ..” (رو 5: 5)، وعلى ذلك، فالتوبة الحقيقية هي تغيير الحياة، وهذا هو صراع المحبة الإلهية معنا وفينا:

– أن تحب الرب يسوع كنفسك؛ هو ما يجعلك تحيا بشكل مختلف.

– أن تجعل الرب يسوع أهم من كل ما تحب.

– أن تصبح محبة المسيح في قلبك هي سبب محبتك للآخرين.

هذه ليست خطوات مثل خطوات صعود السُّلَّم، بل هي صلاة يسوع. وما تذكره الإبصاليات بالذات، هي حسب كلمات إبي: “المجال الإلهي لعمل الرب يسوع وإشراقه بالنور الإلهي في قلب كل مَن يدعوه”.

الأعمال ليست ثمرة للإيمان كما يُقال، ولا هي ثمرة للمحبة. كل هذه التعبيرات لها خلفية نسكية مزوَّرة تؤدي إلى تقسيم الكيان الإنساني.

قال لي: “لنبدأ من أول الحكاية. الإرادة هي عزم الإنسان، وهو يجب أن يكون عزم المحبة، وليس مجرد فكرة في قلبك وضعتها للتنفيذ.

– القرار الإرادي هو الاتحاد بالرب يسوع وهذا يعني -أول الكل- أن يكون كيانك (الجسد والروح) ملكاً مشتركاً بينك وبين المخلِّص والفادي. عندما يملك المسيح على حياتك ومشاعرك ووجودك، فهذا يعني أنك لا تملك ذاتك لذاتك، بل تملك ذاتك للرب يسوع.

– كل الشرور والخطايا تأتي من مصدر واحد، وهو شعور الإنسان بالاستقلال عن الرب. انفراد الإنسان بوجوده([1]) لكن علينا أن نحب الرب حقاً لا بالعواطف، ولكن بالممارسة. ليس بالشعور؛ لأن (العواطف هي باب خداع القلب)، ولكن بالعزم؛ لأن العزم له أساس أن كيانك ووجودك ليس لك. هذا لا يجعلك مثل من أصيب بالشلل، بل يجعلك حُرَّاً من كل الصراعات التحتانية (اللي تحت مراقبة الضمير والشعور)، أي ما هو خفي (جُوَّة، جُوَّة في القلب). لن تملك الرب يسوع طالما أنت مستقل عنه، ولكن استقلال ذاتك يجب أن يكون القوة الذاتية التي تجعلك تطلب دائماً الرب كلما أحسست بالابتعاد عنه.

– الرب يسوع هو حياة، وليس برشامة أسبرين تأخذها لمَّا تكون تعبان. هذا التصرف، أي البحث عن الراحة والعزاء في المسيح فقط بدون الاتحاد به، هو ما يهدم المحبة؛ لأن المحبة الحقيقية هي في طلب الرب لشخصه فقط، وليس لأي أمرٍ آخر.

– كان عندنا في الدير أب مريض تعبان، ولكنه كان يقول للرب يسوع: (الجسد ده بتاعك أنت، اعمل فيه اللي أنت عاوزه. أنا مش هَطلب الشفاء، ولكن هَطلب أن يكون جسدي ذبيحة حية مقبولة عندك).

– العزم الحقيقي نابع من الاتحاد، لا بقرار الإرادة فقط. والقلب يراقب ويرى كل يوم، بل كل ساعة -على قدر تقدُّمك في المحبة- مدى صحة محبتك.

– إذا فضَّلت لنفسك أي شيء، فلا تنزعج، طالما هو خير وصالح. كل مطالب الجسد مثل النوم – الأكل – الملابس – هي أمور صالحة مقدسة؛ لأنك تفعل هذه الأمور من أجل محبتك للرب”.

قال والدموع في عينيه: في أول طريق الرهبنة قِيل لي إن جحد الذات هو رفض الإنسان لكيانه وحياته”، وأنا تعبت من هذا الكلام، ولكن واحد من شيوخ الدير -لم يذكر اسمه- قال لي: يا مينا حِبْ الرب يسوع لنفسك. هذا هو طريق جحد الذات، وهو الطريق الرسولي. وأصبحت أسير في الاتجاه الصحيح.

– يا ابني لا يمكن للإنسان أن ينكر وجوده، ولكن يمكن لكل إنسان أن يفهم معنى قول الرب: “انكر ذاتك واحمل صليبك، أي ذاتك المصلوبة، ثم اتبعني، أي اتَّحد بي في طريق الحياة”.

– إغراءات الخطية لا تأتي من الخارج فقط، بل من الداخل أيضاً. وقد تأثرت بشكل لا يوصف عندما قرأت في سيرة الأنبا صموئيل المعترف أن البرابرة الذين أسروه قد ربطوه في سلسلة مع جارية لكي يزني معها. ولكن قلبه المشغول بمحبة الرب جعل حتى إغراءات الخطية تتلاشى.

– إذا انكسر عزمك، أو تغيَّرت إرادتك، فلا ترتعب ولا تجعل لليأس مكاناً. العودة إلى الخطية أو إلى الكسل معناه أن في القلب “جُوَّة جُوَّة” رغبات وشهوات لم تُكتَشَف، ومع الحزن يجب أن يكون لدينا رجاء في أن نكتشف ما هو في داخل القلب الذي أعادنا إلى سيرة قديمة، أو ذكريات باطلة بلا نفع. محبة الله التي توهب بالروح القدس تبيد كل ما هو باطل.

– تذكَّر كلمات الرسول بولس: “أنسى ما وراء”، وتذكَّر أيضاً كلمات الرب نفسه: “مَن يضع يده على المحراث ونظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت السموات”؛ لأن النظرة إلى الوراء معناها نسيان الهدف. كان الأنبا أرسانيوس يقول: أرساني تأمَّل (في الهدف) الذي لأجله خرجت من العالم” وعندما يصبح الرب هو هدف ووسيلة حياتك، ستجد العزم الصالح؛ لأنه نار المحبة الإلهية المشتعلة في القلب.


([1]) كان ابونا فليمون المقاري يقول: “الانسان الفرداني هو محب لذاته فقط”!!

التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة