رد الإساءة بالإساءة، إلى أين يقود؟

تابعتُ عبر ما هو متاحٌ في الصحافة العربية والأوربية والأمريكية، ما نُشِرَ عن الرسوم التي تسيء إلى النبي محمد. وأُبادر فأقول هي عبثٌ من العبث، حيث لا يعرف لإنسان الأوربي والأمريكي أنه لا يمس الشهادة الثانية في الإسلام.

فالشهادتان علامة تميز الإسلام دون غيره. ولا يوجد لدى اليهودية والمسيحية اعترافٌ بالأنبياء، لكن جاءت الشهادة بنبوة محمد في ظروف تاريخية معقدة في الجزيرة العربية، حيث وُلِد ونما الدين الحنيف.

ولكن غالبية شعبنا في الأقطار العربية والإسلامية لا يعرفون أن العبث بكل ما هو مقدس، بل وما هو إلهي الأصل، له تاريخٌ قديم يعود إلى بواكير عصر النهضة، وساد في الآداب الأوربية كلها. سخريةٌ مريرةٌ أحيانا، ارتبطت بالصراعات المذهبية، بل والاقتصادية، نالت الكنيسة واليهود جانباً كبيراً منها. تلك نزعةٌ عبثية لمقاومة سلطان العقيدة التي كان لها دورٌ سياسي مؤيد لأنظمة الحكم. وعندما دخلت أوربا عصر الحكم المدني بلا دين، دخل العبث والفكاهة في خلق الشعر والرسوم والفكاهات التي شملت الله والمسيح وقديسي الكنيسة والأسفار المقدسة والرهبنة وكل ما هو مقدس وذا قيمة أخلاقية.

تحت هذا العبث، توجد رغبة الانفلات من القيود. وتحت هذا الانفلات يقبع، ليس التمرد والخروج على ما هو مألوفٍ، بل عطشٌ إلى الحرية، انحرف عن المسار الإنساني إلى استباحة ما هو عزيز وثمين مثل الجنس والحياة الشخصية.

لست أسوق هذا لكي أُبرر الإساءة إلى النبي محمد، ولكنني أتوجه إلى بني قومي عبر تراثنا الديني الواحد الذي تحتضنه اللغة العربية، وعاش ولا يزال في أروقة الثقافة الإسلامية؛ لكي ندرك أن هذا العبث ليس جديداً، ولا هو ضد الإسلام، ولا هو ضد النبي، فهو ليس ضداً لأي شيء، ولا يهدف إلاَّ للانقضاض على الرصانة وعلى الاحترام وتبديد ما يحفظ كرامة الإنسان.

لكن ردُّ الإساءة بالقتل أو بأي صورة من صور العنف الأخرى، ليست حلاً، بل يحشد ذلك ذات القوى العبثية لمزيدٍ من العبث. ولذلك، لم يكن غريباً أن تُصدر ذات المجلة بعد الاعتداء المسلح عليها، طبعات بعدة لغات.

لقد فقد الإنسان الأوربي الشعور بقيمة العقائد الدينية كلها بلا تمييز، ورغم أن هذا حكماً عاماً، إلاَّ أنه صحيح وحقيقي. لو عَرِفَ بنو قومي السلسلة المشهورة بعنوان ساخر Dummis لوجدوا أنها قد تناولت ديانات الأرض، والعلوم والفلسفة والطب … إلخ وأنها قد نُشِرت بكل لغات أوربا … فقد دخلت الفكاهة في شرح الإلحاد، ليس دفاعاً عنه، وفي تشريح الأفكار الفلسفية المعقدة، وفي ذات السلسلة صدر كتابٌ عن الإسلام، وأكثر من مجلد تناول المسيحية وغيرها.

العبث والفكاهة هروبٌ من معتقل الحياة القاسية، والرد بقسوة جعل بعض المعلقين يقولون إننا على أعتاب الحرب العالمية الثالثة: العالم الإسلامي ضد أوربا وأمريكا … أعتقد أن هذا تشاؤم أكبر من حجم الحادث الأليم.

إن رد الإساءة يكون بالقانون، وبالكفاح في البرلمانات، وبالعودة إلى منظمة الأمم المتحدة، وإلى وثيقة حقوق الإنسان التي أصبحت في حاجة ضرورية إلى أن يُضاف إليها بنداً جديداً، ليس عن حرية الاعتقاد فقط، بل عن احترام عقائد البشر جميعاً.

إن رد الإساءة بالإساءة ستعود بما هو أكثر ضرراً، ولعل حصن “مكارم الأخلاق”، وأخلاق الأنبياء، تدفعنا إلى الرد “بالتي هي أحسن”؛ لأن غير ذلك طريقٌ ينتهي بنا إلى حيث ينتهي دائماً العنف والقتل والمقابر، والاستعداد لجولةٍ أعنف.

دكتور جورج حبيب بباوي

التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة