مع المسيح في تجاربه في البرية

-1-

بعد نداء الآب واستعلان بنوتك: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”، بعد مسحة الروح القدس لتصير المسيح، يقودك الروح نفسه الذي مسحك إلى البرية. لم تكن في البرية شجرة معرفة الخير والشر. أنت تعرف ذاتك ولا تسعى لأن تبرهن لأحد على أنك ابن الله. سؤال الشك: “إن كنت ابن الله” يسعى إلى استعراض القوة. الشيطان محب للقوة، محبة للقوة بلا رحمة، ومحب للقوة بلا حكمة، ومحب للقوة للاستعراض الرخيص. لكنك يا سيد ورب المحبة لم تأتِ لكي تعلن قوةً بل محبة.

محبة الحياة تدعو المجرِّب أن يطلب قوة تحول الحجارة خبزاً (متى 4: 3). التحوُّل هو شيمة الشيطان. في الآرامية، كلمة “شيطان” تعني المتحول دائماً، الذي بلا ثبات. ليس رفضاً لمشورة ولا خضوعاً للوصية، فكلاهما لم يكن المحرك الحقيقي لرفض الطلب، وإنما لأنك جئت لا لكي تحيا لذاتك، الشيطان يحيا لذاته، أنت الوحيد في تاريخ الانسانية الذي عاش لغيره.

“ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”. مركزية الخبز هي مركزية الأنا التي تحيا لذاتها من أجل ذاتها، ولكن “يحيا الإنسان ليس بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (متى 4: 4). الانسان الجديد يحيا بالخبز وبالكلمة، تلك القوة الفاعلة في لغة الشعب القديم ففي العبرانية “د ب ر” أو “د ف ر” هي عمل وليس كلمة فقط. لقد جئت لكي تحيا للآب وتنقل وعي الإنسان من الذات المنغلقة إلى الذات المنفتحة على عمل الله الذي تظهره الكلمة.

-2-

على جناح الهيكل، وتحت هذا الجناح وادٍ عميق. أخذك المجرِّب (متى 4: 5). لم تذهب طواعيةً، بل قادك، وقبلتَ مثل مصارعٍ نبيل كريم، يقبل أن يمسك به الخصم لكي يصرعه (تجسد الكلمة 24: 3). وسؤالُ الشكِ لم يعد خاصاً بالهوية وحدها، بل شمل مواعيد الله. فلماذا لم ترمِ نفسكَ وتعلن أنك ابن الله؟ من المستفيد؟ الشيطان لن يستفيد؛ لأنه متحول دائماً، والبشر قد ينتابهم الذهول والدهشة، ولكن الشر الأكبر هو أنك دُعيت لأن تتحدى الآب، وأن تدعوه لأن يبرهن على صدقه وأمانته … في ثنايا هذا التحدي امكانية أن تشكَّ أنت في صدق الآب.

“لا تجرب الرب إلهك”؛ لأن تجربة الرب تعني انعدام الثقة، وانعدام المحبة، بل هي جهلٌ بأمانة الله في صدق ما وعد به.

-3-

على جبلٍ عال حيث الرؤيا أعظم، وفي منظر ممالك العالم يقول: مَن لا يملك هذه الممالك أنا أعطيها لك. دخل عنوة إلى الكون فاسد المقاصد، لا يريد سوى السرقة، وأن يأخذ ما لا حق له فيه، ولم يخلق له أصلاً. أُعطيك ما لا أملك إذا قدَّمت السجود. هنا، لم يكن الرد كافياً. كان الانتهار ضرورياً: “اذهب يا شيطان” (متى 4: 10). انتهار اللص المخادع الذي لا يملك الأرض. هو يجول كما قال في سفر أيوب، ويزمجر مثل أسد، ولكن عجباً، المتواضع القلب يقف أمام الأسد المفترس؛ لأن المتكبر تخلى عن قوة من يملك كخالق، وهو الله، والمتواضع يضع نفسه في معسكر الحياة والحق في “معية الخالق”.

السجود –يا أحبائي– هو تسليم الذات. ليس هو الانطراح على الأرض بعقل يفكر في غير الله ورحمته، من يسجد يُسلِّم لمن يملك كل الكائنات، أي “به نحيا ونوجد ونتحرك”.

-4-

برية العالم يا يسوع ممتدةٌ في البيت والعمل والكنيسة. وفي كل مكان نعيش فيه، تجربة، بل تجارب تحيط بالقوت، بالطعام، وأخرى بمواعيدك، وثالثة بما يجب أن نملكه، لكن مع كل تجربة تظل أنت الراعي الصالح الذي يعطي استنارةً، يتقدم أمام الخروف لكي يقوده ويناديه باسمه؛ لأنك تعرف كل من في قطيع ميراثك.

-5-

لقد دحرت الشيطان في البرية، وجاء نفس الصوت وأنت معلَّقٌ على عود الصليب: “إن كنت ابن الله خلِّص نفسك وآخرين”، أو “انزل عن الصليب”. إنه صوتٌ آتٍ من البرية، ولكن الآن بواسطة البشر من السلطة الدينية الفاسدة، ومن قوة روما الحاكمة، ومع نغمات الاستهزاء والسخرية: “خلَّص آخرين في معجزات الشفاء”، و”أمَّا نفسه فما يقدر أن يخلصها” (متى 4: 41). ولكن الذي جاء، لا لكي يحيا لنفسه، بل لنا، ويعطي حياته طعاماً للآخرين، كان الصليبُ وحده هو طريق العطاء. ومن عرف طريق العطاء الحقيقي، وجد أنه طريق الصليب، ومُعلَن في تعليم المصلوب، فلم ينزل عن الصليب؛ لأنه رغم سخرية وعداوة وشماتة كل من حوله، لم يترك الهدف الذي جاء لأجله؛ لأنه ببذل ذاته سوف يفيق البعض ويعود إليه. قبولُ الشماتة والتعيير، سوف ينهي الشماتة عندما يتحقق الهدف الذي جاء لأجله، وفي نفس مكان صلبه، ارتفع الصليبُ فوق قبة كنيسته تعلِن أن البذلَ أثمر، وأنه لم ينزل عن الصليب لكي يبقى الصليبُ عرشَ المحبة، وعرشَ الله نفسه، وهو ما يرعب الشياطين ويثير غضبهم.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة