من أقوال الآباء في القيامة

-1-

لنقدِّم أنفسنا لمن قدَّمَ نفسه عنا

إنه فصح الرب، إنه الفصح! لنردده لمجد الثالوث*
الفصح، بالنظر إلينا، عيد الأعياد، احتفال الاحتفالات، كما تكسِفُ الشمسُ النجوم، كذلك يكسِفُ هذا العيد الأعياد، ليس فقط أعياد البشر، بل أعياد السيد المسيح نفسه*
بالأمس ذُبِح الحمل، ونُضِحت الأبواب بدمه، وبكتْ مصر أبكارها، أمَّا نحن فنجونا بفضل الدم الزكي*
بالأمس كنت مصلوبًا مع المسيح، واليوم مُمجَّدٌ معه*
بالأمس كنت مائتًا معه، واليوم حيٌّ معه*
بالأمس كنت مدفونًا معه، واليوم قائمٌ معه*
فلنقدِّم لا الهدايا فحسب للذي تألم لأجلنا ثم قام، بل أنفسنا، فإنها أثمن الهدايا وأقربها إلى الله* صورة الله فينا: لنعكِسَنَّ الضياء اللائق بها اعتبارًا لقيمتِنا، وإكرامًا لمِثالنا*
إذن لنفهمَن ذلك السر، ولماذا مات المسيح؟
لنتشبه بالمسيح لأنه تشبه بنا* لنصِرْ آلهة معه لأنه صار إنسانا لأجلنا*
لقد اعتنق الشيء الأقل صَلاحًا ليُعطينا الأفضل*
تسوَّل بشرتنا لنغتني بفقره*
اتخذ شكل عبد ليُعِتقَنا من العبودية*
تنازل ليرفعَنا*
قبِلَ أن يُجرَّبَ ليُعينَنا على النصر.
احتُقِر ليُمجِّدنَا ومات ليُخلِّصنا*
صعد إلى السماء ليرفع إليه القابعين في الخطيئة*
فليُقدِّم كل واحد منا كل ما يملك للذي قدَّمَ نفسه فداءً عنا*
فإذا فهمنا سر الفصح فلا نستطيع أن نعمل أفضل من أن نقدِّم أنفسنا للمسيح، فنُضْحي على مثاله كما أضحى هو على مثالِنا*.

القديس غريغوريوس النـزينـزي


-2-
فصح المسيح

إن فصح المسيح جعلنا أُناساً جدداً.
كنا نولد أبناء للبشر، واليوم نولد أبناء لله.
بالأمس كان الموت سائدًا بسبب الخطيئة، واليوم يملك العدل بفضل الحياة.
إنسانٌ واحدٌ فتح لنا قديما باب الموت، والمسيح اليوم أعاد لنا الحياة.
بالأمس أخذنا الموت من الحياة، واليوم أبادت الحياةُ الموتَ.
بالأمس طردنا العصيان من الفردوس، واليوم يُعيدنا إليه الإيمان بقيامة المسيح.
قدَّم لنا المسيح ثمرة الحياة لكي نتلذذ بها كما نشاء، وجرى من جديد ينبوع الفردوس الموزعة مياهه بأربعة أنهار الأناجيل، لكي يُنعش وجه الكنيسة.

القديس غريغوريوس النيصي

-3-

المسيحُ قام من بين الأموات، فقوموا أنتم معه.
المسيح عاد واستوى في مكانه، فعودوا أنتم معه.
المسيح تحرر من رُبُطِ القبر، فتحرروا أنتم من رُبُطِ الخطيئة.
أبواب الجحيم قد فُتحت، والموت ينحل.
آدم القديم يبتعد والجديد يعود إلينا.
فإذا كانت خليقةٌ جديدةٌ بالمسيح، فتجددوا أنتم.
الفصحُ فصحُ الرب. هذا عيد الأعياد وموسم المواسم، فهو فوق الأعياد والمحافل جميعا، وفضله على سائر الأعياد كفضل الشمس على سائر الكواكب. اليوم نعيِّد القيامة نفسها التي لم تعد أملاً ورجاءً، بل واقعاً حياً، وموضوع فرح دائم في غلبتنا الموت. فقد اشتملت العالم بأسره.
ومتى صعد المسيح إلى السموات، فاصعدْ معه، وكُنْ مع الملائكة. ساعد في أن ترفع الأبواب لاستقبال الآتي من الآلام بحفاوة.
وأَجِبْ السائلين: “من هو هذا ملك المجد؟” أجب إنه السيد الرب ملك المجد، و”إنه الرب القوي والقدير”.
يا أيها الناهضُ، إذا وصلنا باستحقاق إلى الغاية المبتغاة، وصرنا مقبولين في الأخدار السماوية، سنقرب لك بصحة العزم ذبائح مقبولة على مذبحك المقدس.
يا أيها الآب والابن والروح القدس،
لأنه لك يتوجب كل مجد وإكرام وسلطان إلى دهر الداهرين،
آمين
القديس غريغوريوس اللاهوتي

-4-

جاء في إحدى عظات القديس بوليكاربوس أسقف أزمير (القرن الثاني) عن الإيمـان بقيامـة المسيح ونتيجتـه على حياة المؤمـن وسلوكـه:
“.. شدّوا أحقاءكم واتقّـوا الله بالمخافة والحق طارحين جانباً كلام الثرثـرة الفارغ وضلال الأمم، موطِّدين الإيمان على من أقام ربنا من المـوت، وآتاه المجد، وأعطاه عرشاً عن يمينـه. “له يخضع كل ما في السماء وعلى الأرض” ويعطيه كل من فيه نسمة حياة. وعندما يأتي “ليدين الأحياء والأموات” سيُقاضي عن دمـه كل من رفض الإيمان به.
“والذي أقامه من الموت” سيُقيمنا معه أيضاً إن امتثلنا لمشيئته، وسرنا على طريق وصاياه، وأحببنا ما يحب، وتركنا كل إساءة وطمع ونميمة وشهادة زور، وعن حب المال المفرط متجنبين مجابهة شر بشر، وشتيمة بشتيمة، وضربة بضربة، ولعنة بلعنة، ذاكرين تعليم من قال: “لا تدينوا لئلا تُدانوا، اغفروا يُغفر لكم، أرحموا تُرحموا، بالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم، طوبى للمساكين وللمضطَهدين من اجل البرّ فإن لهم ملكوت الله”.
القديس بوليكاربوس أيقف أزمير
عن رعيتي 4/مايو 1997

-5-

هذه مقتطفات من العظة الأولى التي ألقاها القديس غريغوريوس بعد انتخابـه أسقفاً على نازيانز (آسيا الصغرى) سنة 362. كان القديس غريغوريوس قد اختار الحياة الرهبانية برفقـة صديقـه القديس باسيليوس الكبير، إلاَّ أن والده الذي كان أسقف نازيانز نفسها استدعاه ورسمه كاهنا ثم أسقفاً. لم يرغب في الأسقفية في زمن تفاقم الأريوسية وعاد إلى الدير لكنـه رجع بعد أشهر إلى مسؤوليته الأسقفية واستمر فيها حتى صار بطريرك القسطنطينية وانتصر على الأريوسية في المجمع المسكوني الثاني. نلاحظ من المقاطع التي ننشرها إن عددا من الصلوات التي نرتلها في العيد مأخوذة من عظات القديس غريغوريوس.
الذين خدمونا وتألموا من اجلنا. لنصفح عن كل شيء في القيامة، أنا اغفر لكم فرض المسؤولية عليَّ وأنتم اغفروا لي تأخري … مُسحت سريا وتخلفت عن خدمة السر فترة تفحصت فيها نفسي، والآن أعود في هذا اليوم البهي الذي يساعدني لأتغلب على ترددي وضعفاتي. وأرجو أن يجددني القائم من بين الأموات بالروح ويلبسني الإنسان الجديد ويدفعني إلى خليقتـه الجديدة عاملاً جيداً وسيداً جيداً مستعداً للموت مع المسيح والقيام معـه.
أمس كنت مصلوباً مع المسيح، اليوم أُمجَّّد معـه.
أمس مت مع المسيح، اليوم أحيا معـه.
أمس دُفنت مع المسيح، اليوم اخرج معـه من القبر.
لنقـدّم بواكيرنا إلى الذي تألم وقام من اجلنا. أتظنون إني أتكلم عن الذهب والفضة والأقمشة والحجارة الكريمـة؟ كلها مقتنيات أرضية، لا تخرج من الأرض إلاَّ لتقع في أكثر الأحيان بين أيدي الغاشين عبيد المادة وأمير هذا العالم.
لنقدم للمسيح ذواتنا: هذه هي أثمن تقدمة في عيني الله والأقرب إليه.
لنردّ إلى صورته ما هو على شبهه.
لنتعرف على عظمتنا ونمجّد مثالنا، لنفهم قوة هذا السر وسبب موت المسيح.
لنصر مثل المسيح بما أن المسيح صار مثلنا.
لنصر آلهة من أجلـه بما أنه صار إنساناً من أجلنا.
أخذ الأسوأ ليعطينا الأفضل.
أفقر ذاتـه ليغنينا بفقره.
أخذ صورة عبد لنحصل على الحريـة.
وضع نفسه ليرفعنا.
تجرّب ليشهد انتصارنا.
قَبِلَ الإهانـة ليظلـلنا بالمجد.
مات ليخلصنا.
صعد إلى السماء ليجذبنا إليه نحن الذين تمرَّغنا في الخطيئـة.
لنقدّم كل شيء إلى من أعطى ذاته فديةً عنَّا.
لن نعطي أبداً تقدمةً أعظم من أنفسنا إن فهمنا هذا السر وصرنا من اجله ما صاره من اجلنا”
القديس غريغوريوس النـزينـزي
عن رعيتي 23 ابريل 1995

-6-

إنها لحكمةٌ ساميةٌ، تلك القاضية بأن تُنسي السيئات في أيام الفرح. فقد جلَبَ لنا هذا اليوم نسيان الحُكْم الأول الصادر بحقنا. وما قولي كذا؟ ليس النسيان، بل الإلغاء. لقد أُلغي تماما كل ذكرٍ للقضاء علينا. كنَّا قبلاً نُولَدُ بالألم، أمَّا الآن فنولدُ بدون ألم؛ لأننا كنّا جسديين ونولدُ بالجسد، أمَّا مَن يولدُ الآن، فهو روحٌ مولودٌ من الروح.
بالأمس كنا نولد أبناء للبشر، واليوم نولد أبناء لله.
بالأمس كنا منبوذين من السماء إلى الأرض، واليوم جعلَنا الرسول السماوي مواطنين في السماء.
بالأمس كان الموتُ سائداً بسبب الخطيئة، واليوم يملك العدل بفضل الحياة.
إنسانٌ واحدٌ فتح لنا قديماً باب الموت، وواحدٌ اليوم أعاد لنا الحياة.
بالأمس نبذَنا الموتُ من الحياة، واليوم أبادت الحياةُ الموتَ.
بالأمس خبّأَنا الخجلُ تحت التينة، واليوم يجذبنا الموت نحو شجرة الحياة.
بالأمس طردَنا العصيان من الفردوس، واليوم يُعيدنا إليه الإيمان.
وقُدمَ لنا ثمر من الحياة جديداً لكي نتلذذ به كما نشاء، وجرى من جديد ينبوع الفردوس الموزَّعة مياهه بأربعة أنهار الأناجيل، لكي يُنعَش وجهُ الكنيسة. هكذا تستطيع أن ترتوي الآلام التي شقَّها زارع الكلمة في نفوسنا، فتتأثر بذور الفضيلة…
الآن تتمُّ راحة السبت الحقيقية، تلك التي باركَها الله وفيها استراح من محَنِه، بعد أن احتفل بانتصاره على الموت، لأجل خلاص العالم. لقد ظهرت نعمةُ هذا النهار لعيوننا وآذاننا وقلبنا. احتفلْنا بالعيد بكل ما رأينا وسمعنا وملأَنا فرحاً. ماذا رأينا؟ ضياء المشاعل التي كانت تُنقل في الليل كغمامة من نار. وسمعنا طوال الليل رنين المزامير والأناشيد والترانيم الروحية. فكان هذا سلسالا من الفرح يجري بآذاننا إلى نفسنا فيُفعمنا آمالا سعيدة. وكان أخيرا قلبنا المأخوذ بما نسمع ونرى مفعماً فرحاً وغبطةً، يقوده المنظور إلى اللامنظور: “هذه الخيرات التي لم تَرها عين، ولم تسمع بها أُذن، ولم تَخطر على قلب بشرٍ” (1كورنثوس 2: 9). إن أفراح يوم الراحة هذا تُقدِّم لنا عنها مثالا؛ لقد كانت عربون رجائنا الفائق الوصف في المصير المرتقَب.
بما أن هذه الليلة المتلألئة بالنور، التي جمعت بين بريق المشاعل وأشعة الشمس الأولى، ألّفت معها يوماً واحداً، دون أن تفسح مجالا للظلام، فلنتأمل، يا إخوتي، النبوءة القائلة: “هوذا اليوم الذي صَنَعَه الرب” (مزمور 117: 24). إنها لا تَعرُض أي أمر شاقّ أو صعب، بل الفرح والسعادة والبهجة، لأنها تضيف: “فلنفرح ونبتهج به!”. يا له من شاغل شيّق! ما ألطفه أمرا! من يتردد في الطاعة لمثل هذه الأوامر؟ من لا يشعر بضيم إذا تباطأ في تنفيذها؟ المقصود أن نفرح، فنحن مأمورون بأن نبتهج، وبهذا مُحي العقاب القاضي على الخطيئة، وتحوَّل حزننا إلى فرح.
القديس غريغوريوس النيصصي

التعليقات

2 تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة