السلطة

ليس لأحد من سلطان إلا إذا أُعطي له من فوق أي إذا مارسه وهو في رؤية الحقيقة التابعة المحبة لها. في المبدأ ما كان أصحاب النظام الملوكي على خطأ في الغرب عندما كانوا يتكلّمون على أن الملك هو من حق إلهيّ، ليس بمعنى أن الملك إذا أمر من عندياته يكون الرب هو الآمر، ولكن بمعنى أن الحاكم المطلق ليس كذلك إلا لإيمانه بأنه ينقل إلى الناس سيادة الله عليهم بما يراه إلهيا. وعندما رفضت الثورة الفرنسية مطلقية الملك كانت ترفض أن سيادة الله منتقلة آليا إلى الحاكم. بكلام آخر لا يبقى الرجل ملكاً إلا إذا كان إلهيّ الإرادة.

أما الشعار الذي أطلقته الثورة بأن السيادة هي للشعب فخطأ كسيادة الملوك ما لم نؤمن أنّ الأمّة لا تُجمع على خطأ. البشر لا يُطاعون إلا إذا جلسوا على أرائك الحقيقة والإخلاص للإنسان بالعدل والمحبة. السلطة تبقى لله كائنة ما كانت وسائل النقل. الإنسان تراب والتراب لا يحكم.

عندما يقول القرآن: “قلْ اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع المُلك ممّن تشاء” (آل عمران، 26)، لي أن أفهمها ليس بمعنى تقلّب الحكام فحسب ولكن بمعنى أن الملك يبقى عند الله ولا يملك إلا من مارس حق الله فيزول إذا زالت عن قلبه حقيقة الله. إذاً ليس هذا الجالس على العرش مليكاً إلا إذا كان يتعاطى حقيقة الله في شؤون الأرض. ليس هذا الجالس مركز الحكم. الله وحده المركز. في المقابل لست أقول إن الله وراء إجماع الشعب أو ما يسمّى في لبنان التوافق إذ من الإمكان أن تُجمع الأمّة على بغض أو ظلم. الحكم يبقى اقتراباً من الفكر الإلهي وواقعياً هو دائماً محاولة دنوّ من البهاء الإلهي. ومَن كان حاكماً بأمره دون الرجوع إلى ربه يقع في الشرك وليست له طاعة وجدان. لذلك كانت السياسة اجتهاداً بشرياً تحمل طابع الخطيئة لأن البشر يقومون بها فيما هم غارقون في خطاياهم.

إذا انتقلت إلى الحيّز الدينيّ لا نرى كلاماً في السلطة إلا عند المسيحيين. لا يختلف هؤلاء على اختلاف مِللِهم ونحلهم على أنّ السلطة هي لكلمة الله القائمة في الكتاب وعند بعضهم يوضحها التراث. ولكن كيف تتركّز بشرياً؟ عند أول نقاش في عهد الرسل حول اقتبال الوثنيين في الإيمان أيتهوّدون قبل معموديتهم أَم لا، عُقد مجمع أورشليم وفيه ليس فقط الرسل بل الإخوة أيضاً أي عامّة الناس. المعنى الواضح أن الخيار النابع من الحقيقة ينزل على الجماعة المؤمنة والممارِسة. أنت تحتاج إلى طريقة تكشف لك ما يلائم حقيقة الله. الانصياع هو لمشيئة الله. لا أحد يأمر وينهى بأمره. لذلك يؤتى إلى الرئاسة الروحية بمَن كان أهلاً للقيادة وذلك إذا كان الرجل وفق قلب الله في معايير ذكرتها الكلمة بلسان الأوائل. يُطاع الرئيس لأن هذه المعايير اكتُشفت فيه وهي التي دعت أن يُجعل قساً أو أسقفاً.

•••

وقالت كتبنا إنه ينبغي أن يكون تائباً، وفي درجة أعلى أن يكون مستنيراً. أما في درجة الأسقفيّة وهي العليا فينبغي أن يكون مؤلَهاً أي إنساناً إلهياً لا عيب فيه ولا لوم عليه ومدركاً مقام اللاهوى أي التنزّه عن الغرض والشهوة المؤذية وغير منفعل أو غضوب ولا طامعاً بالمال ومخلصاً لزوجة واحدة، غير شرّيب للخمر، عفيفاً على كل صعيد.

وفهم المسيحيون الأوائل أن تطيع إنساناً كهذا لأنك تطيع فضائله ولست منصاعاً للحم ودم. مرة سألت كبيراً في كنيستي: «كيف تعلم أن الكلام الذي تقوله صادر عن الله أَم صادر عن شهواتك؟». تتصوّرون أن السؤال كان محرجاً ولكن هو السؤال. لذلك يجب أن يسمع الأسقف صوتاً نبوياً يهزّ ضميره ويدعوه إلى التوبة لئلا يكون مستبدّاً بخراف يسوع ويعطيها ما وسوس به له الشيطان.

إنه يقترب من المبتغى لو قرأ قول المعلّم: “ما جاء ابنُ الإنسان ليُخدم (بضم الياء) بل ليَخدم (بفتح الياء) ويبذل نفسه فداء عن كثيرين” (مرقس 10: 45). المطران خادم وغاسل أرجل. من هنا، بعض التدابير يَعرفها أهل الدنيا: أن يُحاط بمستشارين، بمجالس شورى. هذا هو الحد الأدنى، غير أنّ تقواه تقتضي أن يحيط به الأتقياء الذين ملأهم الروح بالحكمة ونزّههم عن الغرض. أما أن يتصرّف وكأنه يقول: “أنا ربكم فاعبدونِ” فهذا شرك وضلالة.

أما إذا اختلطت عند الرئيس الديني المسيحي تقواه بشهوة التسلّط والتسلّط بغض فما علينا إلا أن ندعو له بالهدى ومخافة الله وأن تقوى محبته. دائماً تعاطي أمر الله رهيب. فهو إما تبليغ لأمره وإما تطويعه لشهوة المسؤول. من هنا أن المحلّ الممتاز للاستبداد هو الكنيسة. الدولة أيضا مكان الاستبداد لكنه استبداد بشريّ عاديّ – إن لم تكن دولة قائمة على مشروع – أسهل تحمّله لكونه لا يدعم نفسه بالله.

الدنيا كلها استعظام الإنسان لنفسه أياً كان مقامه وأياً كان عمله المفترض، والمتواضعون قلّة، أولئك الذين يعتبرون ربهم كل حياتهم ويرون أنفسهم لا شيء. هؤلاء يُصلحهم ربهم ويُنقّيهم إذا زلّوا، لكن التواضع الأصيل فيهم ينجّيهم من كل ادّعاء. ونحن علينا بالصبر إذ به وحده يواجه استعباد الإنسان للإنسان. مَن تشكو على هذه الأرض والضغوط تنزل عليك من كل صوب؟ لازم وجه ربك وحده لأن الوجود كله زائل وزائل معه المجد الباطل، وأنت تُعطى مجداً من فوق، مجداً غير منظور وتفرح بمن يعطيه لا بنفسك.

كيف نتعلّم أن البشر جميعا إخوة وأن كل أخ لك خير منك؟ الوحدة البشرية ليست ركام أجساد. إنها فقط وحدة الودعاء الذين رفعهم ربهم على الملائكة وجعل قلوبهم عرشه.

التسلّط هو تلك الرذيلة التي يجعل الإنسان نفسه فيها بديل الله الذي له وحده سلطان السماء والأرض. فيها يعبد الإنسان نفسه أولاً، ويريد الناس كلهم عبيداً له، ويعيش كأن الكون كله مخلوق لممارسته نفوذه. كل خطيئة تصدر من شهوة ما. شبق السلطة قتل للناس جميعاً بالفكر، إلغاء كيانهم في نفسك.

أنت لا تستطيع إلغاء المتسلّطين إذ عندهم كل الوسائل ليكبروا أنفسهم ويثبتوا وجودهم. طريقك الوحيد إلى التحرّر منهم أن تتمرد عليهم. أن تجعلهم يحسّون بأن الله مُلغيهم من الوجود الحقيقي. تمرّد بالمقاومة السلميّة دائماً لأنك إن استعملت العنف تكون قد تبنّيت رذيلتهم. العنف كبرياء وجود. لعلّهم بالمقاومة السلميّة يتوبون. تمرّد على الأقل في قلبك. هذا يُحييك وقد يُحييهم.

إلى هذا اصبر إلى الله. اتّحد به وارفعه عليك مليكاً وحيداً. لا تُساوم إن صبرت. هذا خنوع والذل لله لا لمخلوق. تخشّع دائماً في حضرته ليمنّ على أهل الدنيا وأهل الدين أن يتقبّلوا رئاسة الله عليهم ويعترفوا بأنه الرب الواحد الأحد.

نقلا عن جريدة النهار السبت 19/6/2010

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة