لوثر والآباء: العشاء الرباني

TH_lutherيمثل مارتن لوثر حلقةً أساسيةً في الفكر البشري بشكل عام، وقد أشار د. مراد وهبه أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس في مقاله بمجلة روز اليوسف إلى الدور الخطير الذي لعبته حركة الاصلاح الديني في اوروبا، واعتبر أن أهم ما يعيق العقل المصري أو العربي بشكل عام عن التقدم، هو أنه لم يبرز في الطراز الشرقي مَن نادى بالإصلاح الديني كلوثر. وإذا جاز لي أن أقتبس من المقالة المذكورة: فالدكتور مراد وهبه اعتبر أن حركة لوثر هي أهم مقومات العقل الاوروبي وبحسب تعبيره: هي النقلة الفكرية التي حدثت كنتيجة لحركة الاصلاح، فبعد ما كان العقل محكوماً صار العقل حاكماً. ولقد مهَّدت حركة الاصلاح، بلا شك إلى ما عُرف في الفسلفة الاوروبية الحديثة باسم “حركة التنوير”، وفتحت للفكر البشري كله ما أصبح متعارفاً عليه “بحرية الاعتقاد” وضرورة أن يُعلن الانسان عن رأيه دون خضوع لسلطة دينية. أعتقد أن هذا المقال جدير بأن نقف عنده لحظة، ليس في هذا اللقاء، ولكن ربما في لقاء آخر.

إن ما يربطنا بمارتن لوثر هو بلا شك ما حدث في اللاهوت المسيحي بشكل عام من تراجع عن المبادئ الاولية الاساسية التي كرزت بها الكنيسة في عصر لوثر، فلقد أصبح من الواضح بعد خمسمائة عام من الصراعات العنيفة التي مزَّقت أوروبا أن المسيحية كانت تواجه خطراً داخلياً نابعاً من داخلها، وهو ابتعاد الكنيسة عن التعليم الرسولي القديم عن النعمة وعن التبرير بالايمان. وأظن أنني لا أريد إطالة الكلام حول هذه النقطة، ولست أحتاج إلى أن أدخل في موضوع التبرير، فهو جزء لا يمكن عزله عن الإيمان الإنجيلي بشكل عام، وربما تعرفونه أكثر مني.

لكن النقطة الاساسية التي أريد أن أوجِّه حديثي إليها هي عن العشاء الرباني، فهي نقطة خاصة بنا في الشرق. فحركة الاصلاح تمثل تجديداً أساسياً في الفكر الغربي، وتمثل عودةً للمصادر الأولى للتعليم المسيحي، وهي الكتاب المقدس وتقليد الآباء. ونحن نعلم أن لوثر لم يكن يرغب في أن يبتعد كثيراً عن التقليد، ولكنه كان مشغولاً بمراجعة التقليد الكنسي على الكتاب المقدس، وهو عمل قام به آباء الكنيسة في فترات الصراع مع الهرطقات في الخمسمائة سنة الأولى، وتوَّقف بعد ذلك لأسباب يطول الكلام فيها. وربما تعلمون من دراسة الفكر المسيحي أن مشكلة اللاهوت المسيحي هي في ذلك المزج الذي حدث بين اللاهوت والفلسفة، ولقد حدث هذا هنا في مصر على يد الرواد الأوائل في مدرسة الاسكندرية. أكلمنضس وأوريجينوس وكلاهما اعتبر أن الافلاطونية المحدثة والتراث اليوناني عاملاً أساسياً لنشر رسالة الانجيل.

وفي الفكر الشرقي الارثوذكسي، بشكل خاص، الآباء الذين التزموا بالخط اللاهوتي غير الممتزج بالفلسفة، هم ثلاثة فقط، وهم القديس اثناسيوس الرسولي، والقديس كيرلس الأول عمود الدين، والقديس ايريناؤس أسقف ليون في فرنسا. أمَّا الباقون فقد اتبعوا المناهج الفلسفية في عرض الايمان المسيحي. وكان هذا يمثل بالنسبة للمثقفين المسيحيين في ذلك الزمان محاولة دخول المسيحية إلى معقل المثقفين في العالم اليوناني القديم. ومن هنا فلقد تعقدت كثيراً لغة اللاهوت المسيحي، وصارت لغة فلسفية أكثر تعقيداً عن لغة العهد الجديد. والفرق بين بولس الرسول مثلاً وبين العلامة أوريجينوس على سبيل المثال هو فرق جوهري ودقيق.
فإذا كان بولس الرسول، وهو يهودي، مغروساً في بيئة العهد القديم، قد استعان باللغة اليونانية وبالكثير من المصطلحات الشائعة في زمانه، فإنه صاغ الرسالة الإنجيلية عن المسيح في عبارات موجزة بسيطة واضحة ومألوفة لدى الذين يقرأونها، أمَّا بالنسبة للعلامة أوريجينوس فإن الخط الفلسفي جعله يقف على طرف نقيض من الرسالة البسيطة التي كرز بها بولس الرسول. ولعلي أشير هنا على وجه اليقين وبالتحديد إلى كتاب “المبادئ” وهو أول الكتب اللاهوتية التي نرى فيها المزج بين اللاهوت والفلسفة.

ويمثل الغرب “توما الاكويني” آخر مراحل المزج بين اللاهوت والفلسفة. فكل قضايا العقيدة تبدأ أولاً بعرض التحديدات الخاصة بهذه العقيدة كما جاءت بكتب أرسطو. إنه يبدأ بارسطو، وربما انتهى بالقديس بولس، ولكنه بكل يقين يبدأ بأرسطو ويضع كل التحديدات والمقولات أيضاً، ولقد ساد هذا في الغرب. ووصل اللاهوت إلى درجة من التعقيد الفكري الذي جعله يناقش كل القضايا الايمانية بمعزل عن المصدر الأول للتعليم في المسيحية وهو الكتاب المقدس. وهكذا، وقبل أن ندخل في موضوع العشاء الرباني عند لوثر والآباء، أريد أن أستعرض معكم بسرعة، الجدل الذي ساد اوروبا في القرن العاشر حتى عشية حركة الإصلاح حول العشاء الرباني نفسه، فهذه نقطة جوهرية تجعلنا قادرين على استيعاب ما قبل في القرن السادس عشر.

العالم عند أرسطو مكوَّن من ثلاث طبقات منفصلة: السماء، والأرض، والجحيم. وما يحدث في السماء هو مختلف تماماً عما يحدث على الأرض. ولذلك حتى عند أوغسطينوس، وهو آخر الحركة الآبائية في الغرب، صعد المسيح إلى السماء وجلس في مكانه. ففكرة اتصال السموات بالارض – وهي فكرة انشغل بها المتصوفون واللاهوتيون أيضاً – كانت فكرة أساسية لفهم ما يحدث في القداس. في الغرب، ومنذ القرن العاشر كان هناك بحث عن طبيعة جسد المسيح، والعشاء الرباني وكانت هناك فلسفة أرسطو التي أمدَّت اللاهوتيون والمفكرين بالكثير من الحقائق والأخطاء في نفس الوقت. وعند أرسطو، فإن كل شيء طبيعي ينتمي إلى الطبيعة المخلوقة لابد له من طول وعرض … إنه شيء مادي بحت، ولذلك فلقد ثار السؤال في الغرب: إذا كان المسيح جالساً عن يمين الآب، فمن الذي يُقدَّم للقداس الالهي؟ وإذا كانت الكنيسة جسد المسيح، فما هي العلاقة بين الأجساد الثلاثة؟ الجسد الموجود عن يمين الآب في الأعالي، والكنيسة جسد المسيح، وجسد المسيح في العشاء الرباني. هل هناك ثلاثة أجساد، أم جسد واحد له ثلاثة مظاهر؟ وهكذا من الجدل العقلي الذي لا ينتهي.

ولعلكم تعلمون أنه حتى هذه اللحظة، صليب عليه المسيح مصلوباً والكاهن يمسك بالكأس أثناء التقديس ويقرِّبه إلى جنب المسيح المطعون لكي يمتلئ الكأس بالدم وتدق الأجراس، ويعلم الناس أن المسيح قد ذُبِحَ في القداس الإلهي، وإنه يُذبَح كل يوم في كل قداس. وقد اثارت هذه الفكرة الكثير من التساؤلات منذ القرن العاشر. أحب أن أقول لكم مذكراً أن هذه التساؤلات لم يعرفها الشرق على وجه الإطلاق حتى القرن الثامن عشر – أي بعد حركة الإصلاح بمائتي سنة. فنحن أمام تساؤلات أساسية عن موضوع يُطرح من خلال فلسفة أرسطو ، ولذلك فالتعبير الذي ساد الغرب وهو “الاستحالة الجوهرية” هو تعبير مأخوذ أولاً من فلسفة أرسطو. فالتمييز بين الجوهر والعرض هو تمييز فلسفي بحت لا وجود له في الكتاب المقدس، ولذلك عند تقديس الخبز والخمر، وحسبما شاع في كتب اللاهوت الغربي قبل حركة الاصلاح، الذي يتغير هو جوهر الخبز، ويظل الشكل المرئي للخبز كما هو دون تغيير. أحب أن أذكِّركم أيضاً بأنه يوجد فرق أساسي بين “الاستحالة الجوهرية” وتعليم “الاستحالة” عند الآباء، وحتى في اللغة العربية المتأخرة التي استُعملت في مصر وفي الشرق العربي على وجه الاطلاق، تعبير “الاستحالة الجوهرية” يظهر في المؤلفات اللاهوتية العربية قبل القرن التاسع عشر، وتحت تأثير المبشرين الكاثوليك الذين نشروا كنائس كاثوليكية في الشرق. الاستحالة في الشرق موضوع غير محدد لفظياً وفلسفياً، ولذلك فإن الفرق الاساسي ليس في اللغة فقط، ولكن أيضاً في اللاهوت. فإذا تكلمنا عن “الاستحالة الجوهرية”، فنحن نتكلم عن قضية غريبة طُرحت على أساس المقولات التي جاءت في فلسفة أرسطو. ومن هنا فإن التساؤل عن الأجساد الثلاثة: عن الافخارستيا جسد المسيح، وعن الكنيسة جسد المسيح، وعن المسيح الجالس عن يمين الآب، هو تساؤل لا يمكن أن يجاب عنه من خلال الفلسفة، ولكن الاجابة عليه تأتي من خلال الفهم السري الذي يُعلن إيمانياً، والذي يتكون في داخلنا كرؤية شخصية ذاتية إلى أبعد الحدود الذاتية لأنها رؤية سرية غير محددة.

إن المسيحَ واحدٌ لا ينقسم، وهو في العشاء الرباني، وفي الكنيسة، وعن يمين الآب هو بذاته المسيح الواحد. هذا هو تعليم الشرق، ويؤسفني أن أقول إنه تعليم الشرق المهجور غير المعروف.

وفي الحقيقة إننا مدينون للذين أعادوا بحث هذا الموضوع في القرن العشرين، فهؤلاء قد أعادوا إلينا مفهوم الدم والجسد كما جاء في الكتاب المقدس وفي شكله العبراني القديم، غير المتأثر بالمقولات الفلسفية. فالدم ليس ذلك السائل المركب من الخلايا الحية الموجودة في أنسجة الجسم، والذي يقال طبياً إنه يوجد على الأقل احتياطي قدره كيلو جرام منه في الطحال. ولكن الدم هو الحياة، والجسد ليس الانسجة والعظام وما فيها من تركيبات الكيمياء الحيوية والعضوية وما إليه، ولكن الجسد هو الشخص، هو أيضاً الحياة. ولذلك فإن أكل الجسد وشرب الدم إن شئنا أن نستعمل تعبيرات المسيح نفسه والرسول بولس، هو بكل يقين الاشتراك في حياة المسيح. إن الكتاب المقدس في صورته البسيطة الواضحة لا يعطينا أكثر من ذلك. وكل من يحاول الوصول إلى نظرة كتابية تؤيد مذهبه في العشاء الرباني هو هرطوقي بكل يقين، فليس في الكتاب المقدس تعليم يمكن أن يُقدِّم بشكل يقيني إلاَّ أننا نشترك في جسد المسيح كما يقول الرسول بولس في 1 كورنثوس 10.

إن المأساة الحقيقية للاهوت المسيحي كانت ولا تزال هي المدارس الفلسفية التي استطاعت أن تتحصن بالمدارس اللاهوتية. وعلى هذا الاساس فالنقطة الاساسية التي تمثل نقطة الالتقاء بين لوثر والآباء هي رفض تعاليم “الاستحالة الجوهرية”. وهو رفض صحيح. كان لوثر يقول إن المسيح في الخبز ومع الخبز وتحت أعراض الخبز، فإذا أسقطنا كلمة “أعراض” بأعتبارها كلمة مستعارة من عند ارسطو، كان لوثر يعلم تعليماً شرقياً محضاً، وأعني بذلك التعليم الشرقي كما صِيغ في كتابات الآباء في الخمسمائة سنة الأولى، وليس التعليم الشرقي كما تطور بعد ذلك، وأنا لا أريد أن أعود إلى هذه النقطة، فأنا أثق بذاكرة المستمعين وأُحسن الظن بالذين يسمعونني. إذن فنحن نتكلم عن محاولة أساسية للعودة إلى التعليم البسيط عن العشاء الرباني دون الدخول في المعضلات الفلسفية التي طُرحت في الغرب من القرن العاشر. ولو استطعتم أن تقرأوا القداس القبطي بصبر وبطء، تستطيعون أن تلاحظوا أن فكرة حضور المسيح في العشاء الرباني تأخذ اتجاهين في القداسات عند الآباء. نحن شُغلنا في اللاهوت المسيحي منذ القرن العاشر هل يبقى الخبر والخمر على المائدة الالهية، أو يتحول إلى جسد المسيح ودمه، ولكن الشرق كان مشغولاً بموضوع آخر في التفسير السري أكثر مما يتحول الخبز إلى المسيح، وذلك بشبه حركة مضادة لما زاد في الكتابات اللاهوتية في القرن العاشر، ولذلك فإن الكاهن القبطي يبدأ الصلاة بقوله “أنت سبقت فجعلت ذلك خبزاً سمائياً” ولذلك علينا أن نمسك بالخطين الأساسيين: ألاَّ ننشغل بموضوع الاستحالة، وأن ننسى الموضوع الاصلي الذي عُرض في إنجيل يوحنا. وربما إذا تذكرنا أن المسيح في انجيل يوحنا كان يتكلم عن نفسه باعتباره الخبز الذي نزل من السماء، فهو يجعل ذاته خبزاً “أنا هو خبز الحياة من يأكلني يحي بي” هذه عبارات تمسَّك بها الشرق ولم يدخل في المعضلات الفلسفية واللاهوتية بعد ذلك. فلو أن الشرق ظل بمعزل – وفي عزلته الكاملة – دون اتصال بالغرب، ربما كان في قدرته أن يقدِّم اجابةً أخرى غير الاجابات التي سمعناها تتردد في الغرب بين قادة حركة الاصلاح وبين الكنيسة الكاثوليكية. ولكن عموماً مع العشاء الرباني ومع قضية الاستحالة الجوهرية كما نعرف من كتابات لوثر، نرى أربع معضلات أساسية يجب أن تُعالج في صبر واناه.

المعضلة الاولى: هي أننا نصارع مع اللغة اللاهوتية المعقدة الآتية من الفلسفة، وربما كان أفضل ما جاء به لوثر هو محاولة القضاء على اللاهوت المدرسي بمعضلاته اللغوية والفلسفية – ذلك اللاهوت الذي لم يقدر أن يعيش أو يعطي إجابة شافية عن المشكلات التي واجهت الكنيسة الرومانية في القرن السادس عشر، والمشاكل التي قادت حركة الاصلاح وبشكل خاص لوثر.

المعضلة الثانية: إن فكرة “الاستحالة الجوهرية” كما رآها لوثر هي مرتبطة بشكل دقيق بفكرة الكهنوت الروماني. وهنا أنبِّه إلى خطأ نقع نحن أحياناً فيه، لم يكن موجوداً عند آباء الكنيسة في القرون الأولى، وهو التعليم عن كنيستين: الكنيسة المنظورة والكنيسة غير المنظورة، كنيسة مجاهدة وكنيسة منتصرة. وهذا التعليم وُلِدَ في الغرب، وأدخل فكرة هرمية كهنوتية كما نراها في الغرب الكاثوليكي، فالمسيح رأس الكنيسة غير المنظورة – الكنيسة المنتصرة – البابا رأس الكنيسة المنظورة – الكنيسة المجاهدة. لكن التعليم المسيحي الذي صيغ في قانون الايمان النيقاوي هو أننا نؤمن بكنيسة واحدة، كما تقررت في كتابات توما الاكويني. وبالتالي فما يحدث في الكنيسة التي على الأرض – الكنيسة المجاهدة – لا شأن له بما يحدث في الكنيسة المنتصرة. إن البابا الروماني، وحتى هنا في مصر أيضاً، بابا الإسكندرية هو رأس الكنيسة المنظورة، وهذا تعبير أخذناه من اللاهوت اللاتيني، دون أن ندري. إن البابا هو رأس الكنيسة المنظورة وأنه يملك المفاتيح التي أُعطيت للقديس بطرس، ويستطيع أن يغلق السماء في وجه من يريد، ولذلك مع التعليم بكنيستين، ومع نمو السلطان الكهنوتي، كانت فكرة قدرة الكاهن وسلطانه على أن يحول الخبز والخمر، هي فكرة ضاربة بجذورها في اللاهوت الغربي، وصارت ضاربة بجذورها أيضاً في اللاهوت الشرقي بعد القرن الثامن عشر. وصار من المستحيل التصدي لهذه الفكرة إلاَّ بالعودة إلى التعليم القديم الذي شاع في الكنيسة الاولى. لأنه يوجد كاهن واحد في السماء وعلى الارض هو المسيح، ويوجد جسد واحد له رأس واحد، الكنيسة جسد المسيح التي لها رأس واحد هو يسوع المسيح. وبالتالي فإن ما يحدث في العشاء الرباني كان تدعيماً لفكرة الكنيسة وللسلطان الكنسي في تقديم ذبيحة الافخارستيا، الذبيحة التي تُذبح وتقرَّب من جديد في كل قداس. فالكاهن على الأرض هو كاهن يقرِّب المسيح مذبوحاً إلى الله الآب. وبالتالي فإن تعليم “الاستحالة الجوهرية” يجلب معه دون أن ندري، بقصد أو بسوء قصد السلطة الكهنوتية.

النقطة الثالثة: ولعل أكثر من انتبه إليها من المصلحين هو يوحنا كالفن، إن ما يحدث في الكنيسة هو من عمل الروح القدس. الأسرار الكنسية هي عمل من اعمال الروح القدس. واسمحوا لي أن أعود إلى هذه النقطة الاساسية التي انشغل بها الغرب والتي دخلت أيضاً في اللاهوت الشرقي بعد ذلك.

ما هو تعريف السر الكنسي؟ كما جاء في الكتب الإنجيلية العربية، حتى التي صدرت في العصر الحديث: إن السر الكنسي هو علامة محددة منظورة تحتوي على نعمة غير منظورة. وأريد أن أقول إن الآباء في الشرق لم يضعوا تعريفاً للسر الكنسي على وجه الاطلاق. الأسرار كما ناقشها الآباء في الشرق هي عمل من أعمال الروح القدس. لم يكن هناك تحديد أو تعريف للسر. لم يكن هناك أيضاً بحث في عدد الاسرار الكنسية، ولذلك فالشرق قد عرف مؤخراً بعد مجمع ترانت الذي أصفه بالمجمع المشئوم، الذي أغلق سبيل التقدم اللاهوتي أمام الشرق والغرب معاً. وقبل مجمع ترانت لم يكن هناك أسرارٌ سبعة في الكنيسة. كانت هناك أسرار، ولكن لم يكن هناك تحديد. ولكن هناك تساؤلات عن العدد، ومن هنا فلقد بات من الواضح أن تحديد السر الكنسي بأنه شيء منظور أو علامة منظورة يعطي للمؤمن في داخلها نعمة غير منظورة، يفتح باب الجدل الواسع لموضوع الاستحالة الجوهرية. إنني أُسجِّل هنا أن لوثر لم يبتعد كثيراً عن القديس اغسطينوس الذي وضع هذا التحديد، وقد صارع لوثر مع تحديد أوغسطينوس للسر الكنسي. ولكنهما لم يكتشفا ما جاء في التراث الشرقي. وهنا فالآباء – إذا أخذنا الآباء كما هم دون القراءة والدراسة التي سادت الشرق بعد القرن الثامن عشر – فإن الآباء يمكن أن يضيفوا إلى حياتنا وفكرنا اللاهوتي الكثير. فالآباء لم يميِّزوا بين العَرَض والجوهر، ولم يبحثوا في المنظور وغير المنظور، ولذلك فحتى في الشرق والغرب عندما كان الكاهن يقسم الخبز والخمر، فإنه يعلم يقيناً أن أصغر جزء فيه لا يجوز التصرف فيه بطريقة لا تليق، ولكن يجب أن يؤكل بالاسلوب الكنسي المتبع. فليس إذن من منظور أو غير منظور. ولعلي أضيف هنا موضوعاً لم يصادف الشرق بعد، ولم يأخذ حقه من الدراسة أيضاً في الغرب: إن الآباء وفي القداسات القديمة اعتبروا الخبز مثالاً لجسد المسيح. وكلمة مثال هي الكلمة اليونانية “تيبوس” tupos والذين يقرأون العهد الجديد باليونانية يعلمون أنها كلمة واسعة عند الرسول بولس، تعني النموذج أو الشيء الذي يخبر بشيء، وبالتالي فإن قداس القديس سيرابيون، وهو الصديق الحميم لأثناسيوس الرسولي، وفي قداس القديس باسيليوس، النص اليوناني – وهو مختلف كثيراً عن النص القبطي – هذا الخبز المقدس مثال لجسد المسيح، وبالتالي فعندما نكسر هذا الخبز ونشرب من هذه الكأس، فأننا نعيش الذكرى، ليس بالمعنى الموجود عند “زوينجلي” وهو الشائع في مصر بكل أسف، ولكن بالمعنى الشائع في الكتاب المقدس، فالذكرى هي حضورٌ. فالمسيح الحاضر في وليمة العشاء الرباني يعطي حياته للمؤمنين، ويتذكر المؤمنون، ليس من قبيل النسيان، وليس بعمل عقلي مجرد ما حدث على الصليب وفي القيامة، ولكنهم يتذكرون بالاشتراك في حياته ما فعله المسيح وما وهبه لأجلهم في الصليب وفي القيامة.

النقطة الرابعة: كان لوثر قريباً جداً من الآباء عندما اقترب كثيراً من علاقة العشاء الرباني بقيامة المسيح، وبذلك يكون قد ابتعد كثيراً عن اللاهوت المدرسي الذي حصر الإفخارستيا في صليب المسيح فقط. وهناك دراسات كثيرة معاصرة في القرن العشرين، ومع ذكرى الاحتفال بمرور خمسمائة عام على مولد لوثر، ربما كان في استطاعتنا أن نقدم هذه الدراسات باللغة العربية. إن الافخارستيا هي جسد المسيح الممجد، والعشاء الرباني يحمل لنا قوة القيامة. كان لوثر قريباً جداً من ذهبي الفم ومن باسيليوس الكبير ومن آباء الكنيسة الشرقية، عندما اعتبر أن العشاء الرباني يدخل في حياة الانسان ذكرى قيامة المسيح أيضاً.

لقد طرقنا عدة موضوعات في آنٍ واحدٍ، منها موضوع شائك لا توجد له مراجع في اللغة العربية والأمر يدعونا للأسف الشديد والحزن الشديد، ولا تزال رسالة الدكتوراة التي قُدِّمت في جامعة كمبردج عام 1970م عن تطور لاهوت الأسرار، وهي رسالة كتبتها بيدي الاثنتين لا تزال محفوظة في قسم المخطوطات، وعلى من يريد أن يطَّلع عليها أن يحمل إذن خطي مني، فما جاء في هذه الرسالة هي مجموعة من المفاجآت الغير سارة للشرقيين والغربيين معاً؛ لأننا على وجه يقين نعيش في عصر تحول عظيم في الفكر المسيحي بفعل ما جاءت به الحركة المسكونية.

إن التقُارب المسيحي يحدث بإرادتنا وبغير إرادتنا. يحدث بإرادتنا؛ لان الظروف المحيطة بالكنيسة المسيحية في العالم تفرض على المسيحيين جميعاً أن يعيشوا حياة المحبة كشهود أمناء لمحبة الله. وبغير إرادتنا؛ لأن علماء اللاهوت في الشرق و الغرب قد قالوا الكثير، واكتشفوا الكثير، ونبَّهونا إلى الكثير من الاخطاء التي وقعت فيها مدارس اللاهوت في التسعة عشر قرناً الماضية. وقد سررت عندما وصلني كتاب من جامعة أثينا كتبه الاستاذ اللاهوتي اليوناني الذي له احترام كبير في الوسط الارثوذكسي “كارمبرس” بعنوان الأسرار في الكنيسة الارثوذكسية، فحصر كافة الأسرار في سر كنسي واحد، هو سر زواج المسيح بالكنيسة. وهناك كتاب آخر للاهوتي يوناني معاصر حصر أسرار الكنيسة في سرين فقط. هذه الكتب وإن كانت سجينة اللغة اليونانية الحديثة، إلاَّ أن هناك ثمانية من طلبة الاكليريكية يدرسون في اليونان وسوف يتمكنون من ترجمة هذه الكتب، وقد قرأت الفصول الخاصة بالأسرار رغم أن معرفتي باليونانية الحديثة ليست جيدة، ولكنني قرأتها لأنني كنت أشعر أن هناك يداً تبرز للمعونة. فنحن قد نواجه جدلاً عريضاً في داخل كنيستنا المصرية، وأنا أعني بذلك كافة الكنائس المسيحية.

إنني أتمنى أن تكون في مصر كنيسة واحدة بلا انقسامات تستطيع أن تقدِّم الإنجيل حياً في حياة أعضائها. إن هذا عملٌ صعب يفوق قدرة الارادة الانسانية، ولكنه العمل الالهي والعطية العظمى من الله التي سوف تُعطى لنا إن حاولنا نحن أن نطرق باب النعمة الالهية؛ لان كل مَن يسأل يُعطى، ومَن يطلب يجد، ومَن يقرع يفتح له.

تنزيل الملف

luther.pdf

التعليقات

27 تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة