الأقباط

“وإنْ حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين» (المائدة 42). هذه كلمة مرسلة إلى القائمين على الحكم في مصر الذين نزل عليهم حلم الحرية، وهي تتضمن السلامة والعدل بين الناس. ومن أُسس العدل ألاّ يُستصغَر (بفتح الغين) أحدٌ في أي كتلة من القوم. أنا لست سائلاً أهل الحكم عما فعلوا الأسبوع الماضي، أو ما فعل بعض من أقباط. نحن نسعى إلى ما كان أهم من حدثٍ واحد، ولو مؤلماً جداً. نحن ساعون إلى ديمومة علاقات مجموعات تشير إلى وحدة الشعب المصري قبل أن يضطر هذا أو ذاك من الأمة إلى أن يأسف ويعزي بعد فوات الأوان. الرؤية ألاّ يحل وقت نعاين فيه مذبحة أخرى صغيرة كانت أم كبيرة.

طبيعي أن نناشد المسلمين في مصر، ونحن أكيدون أن معظمهم أمةٌ مسالمة غير أن للفاضلين أن يربُّوا الأمة كلها ولا يترك للرعاع شأن الوطن كله. لماذا يتوالى حرق الكنائس؟ لست أعلم نية الحكام الحاليين من حيث استئذان المسيحيين السلطة في شأن بنائها وترميمها يصل إلى استئذان إقامة مرحاض في المبنى الملحق بالكنائس. هذا جزء من تشريع عثماني لم يعدَّل مع الاستقلال. ولكن لماذا لم يطبق هذا في بلاد الشام مرة واحدة، وأشاد المسيحيون الكمَّ الذي أرادوه من البِيَع. أين هذه القسوة من العهود العمرية؟

إذا كانت السلامة جزءاً من الحرية، فالسلامة تتطلب من العرب إلى أي دين انتموا أن يصلّوا. ألم تفهم مصر إن الأقباط أوجدهم ربهم ليبقوا، كما أوجد المسلمين ليبقوا، إلاَّ إذا اعتقدت مصر أنه لخيرها وتقدمها العمراني التخلص من الأقباط نافع لهذا البلد العظيم. بالله قولوا لي كيف القضاء على الأقباط نافعٌ للجماعات الدينية الأخرى في البلد؟

مذبحة وراء مذبحة تجيز لنا أن نعتقد أن ثمة خطة لإراقة الدماء لا أستطيع أن أفهمها إلاَّ لمصلحة الأشرار، وهي بالتأكيد لمنفعة إسرائيل. وقد بينت في مقالات أخرى إن عند اليهود عداءٌ للمسيحيين خاصة. ولكن بين المسلمين حكماء كبار قادرون على الدعوة إلى التعايش مع المسيحيين وهؤلاء يسمعهم الشعب الذي تدفعه قلوبه الطيبة إلى أن يراعي حرية الأقباط في عبادة مأذونة في التشريع، وفي التعبير عن الفكر اللاهوتي شعبياً أو أكاديمياً في عقل مصري عال قائم على العطاء للأمة وعلى تلقي ما عند الأقباط من فكر.

***

عندما كنت أتردد إلى مصر كان عدد الأقباط الذي كانت دوائر الدولة تقر به لا يتجاوز النصف أو الثلث من العدد الحقيقي الذي تعرفه الكنيسة بسبب من واجب الإحصاء في الرعايا. وكأن الحكم نفسه في هذه السنوات الخوالي ضالع في استصغار الأقباط. هل للحكم الذي يسعى إلى أن يقوم اليوم مدني حقا كي لا يخفي الحقيقة؟ هذا الاستصغار مريب، ومصر تقول منذ جمال عبد الناصر إن قوميتها عربية، وتاليا إن الأقباط عربٌ، والعربي أخو العربي في السراء والضراء. الزاوية العربية مقاربة شرعية لوحدة مصر. وإذا أصر المصريون شعورياً على الوطنية المصرية، فلا أحد ينازع الأقباط على هويتهم.

أنا أناشد المسلمين في العالم أن يكون المسيحيون العرب هاجسهم. في الإسلام المسيحيون في ذمة المسلمين أي في رعايتهم. نحن من أنصار حكم مدني لا يكون أحدٌ فيه في رعاية الآخر. مع ذلك يطلب الإسلام من أتباعه أن تكون لهم غيرة على أهل الكتاب وأن يسندوهم في حكم معتقدهم. وهذا قد يتطلب تعاوناً إسلامياً عالمياً ليحافظ المسلمون على المسيحيين في ديارهم. ورجائي يتركز ليس على الدول الإسلامية فحسب بمقدار ما يرتكز على تقوى الشعوب الإسلامية.

قد تكون الغاية الأولى من الحوار المسيحي – الإسلامي في الظروف التي نمر بها الحفاظ الكامل على الجماعات المسيحية العائشة في دار الإسلام. والاتكال هنا على المثقفين المسلمين المتدينين في كل مكان. وهذا التحرك من شأنه أن يحس المسيحيون أنهم في أمان. لنا أن نرجو إلى المسلمين أن يتمسكوا بديانتهم من هذا القبيل، فلا نشك بهم ولا يشكون بنا. ولهم في معتقداتهم ما يجعلهم قرباءنا وأن يجعلنا من قربائهم فنشعر ويشعرون إننا معا من ملة إبراهيم. لا نريد لهم إلاَّ الخير وتقدمهم في كل ما يعود من خيرات هذه الأرض.

ونحن نقول لهم صادقين ما ورثناه من الإنجيل، أي المحبة، وهم يقدِّمون لنا الرحمة التي في كتابهم وتلتقي قلوبنا بما فيها من نقاوة وإخلاص. وليس أحدٌ منا صاغراً عند الآخر.

***

نحن ننتظر أن يضبط الحكم في مصر وغير مصر الأوضاع؛ لأن للحكم قدرة على القَسط أو بلغة اليوم على المساواة وعلى الحرية في المساكنة الوطنية.

سيئٌ هو الإنسان الذي يبيّت للآخر الأذى، وصالحٌ ذلك الذي يريد له النمو والازدهار ويتقبله تقبُّل الأخ لأخيه.

المسلمون والمسيحيون رزقهم الله احترام الحياة، الحياة للكل. “لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين” (المائدة، 28). هذا اشتهيه ميثاقاً إلهياً بيننا، ميثاقاً يلغي القتل الجماعي بصورة قطعية اذكروا إن الدين يقوم على الشهادة، إي إرادة أن يبقى الآخر على حريته. «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» (البقرة، 256). هذه قاعدة مطلقة لا تنسخها آية أخرى في ما يتعلق بأهل الكتاب. من هنا إن المسالمة أساس إسلامي لمعايشة المسيحيين. هذا مبدأ يحلو لي أن يقوى في دار الإسلام ويحلو لي أن يفهم أهل الغرب إننا في هذا الشرق نريد أن يحب بعضنا بعضاً، وهذه قاعدة في المسيحية تشمل في الحب كل إنسانٍ بصرف النظر عن دينه، من حيث أن البشر جميعا هم أخوة في رؤية الرب لهم.

الأحب عند الله أن تكون المجزرة قد انتهت في مصر؛ لأن مصر ليست بلد الفتنة إذا تُرِكَ الشعب لضميره. في المشرق الذي يضم سوريا ولبنان ليس من سابقة قريبة لذاكرتنا فيها تقاتل خصوصا أن كل جماعة دينية تعتبر الأخرى أصيلة فلا العثمانيون أو المماليك أتوا بالمسلمين ولا الفرنجة أتوا بالنصارى. نحن معا هنا من أقدم العصور، وذهب كل منا مذهبه، وعلى قدر التصور البشري سنبقى معا في هذا المشرق العربي ملتصقين بالرحمة الإلهية وبالثقة بيننا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإذا قدرنا نحن أبناء سوريا ولبنان وفلسطين التاريخية أن نلازم بعضنا بعضا فلا شك في أن هذا يصبح نموذجا للمسلمين والمسيحيين في كل الأرض ولا سيما في ديار العرب سوف نحمل مصر وشعبها في أدعيتنا وسوف يكون عيشنا الواحد في أرض العرب دعوة إلينا جميعا لنبقى واحداً في رعاية الله.

المطران جورج خضر – جريدة النهار اللبنانية في 15/10/2011

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة