البطريرك القادم وأزمة ثقافة كنسية ووطنية

متى تسترجع مصر تاريخها العريق الحافل بكل أدوات التقدم؟ فهي أقدم دولة في المنطقة سادها الوحدة بين الدلتا والجنوب منذ عهد مينا أول موحِّد لبلدٍ أسهم بمقدار وافر في الحضارة القديمة، ثم توالت عليه النكبات من فتوحات تريد قهر شعبها واستغلال موقعها ومواردها .. هذه عبارة استاذنا الراحل لطفي السيد يوم تولى الرئيس جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية: “أنت أول مصري يحكم مصر”، ولو شاء الدقة لقال منذ القرن السابع الميلادي.

وفي داخل الوادي تحيا كنيسة مصر، وهي أقدم مؤسسة وطنية حاول الأجنبي المساس بها وفشل. حتى عندما داست جيوش الامبراطورية البريطانية على أرض مصر، كانت الكنيسة ومعها الأزهر – كلاهما معاً – البقعة الواحدة التي لم تخضع للإحتلال.

رحل الأنبا شنودة الثالث بعد معاناة ورحلة طويلة مع المرض، رحل إلى سلام أبدي نرجوه له ولكل الذين هم وديعة عند الخالق الكلي الرحمة وترك وراءه تركة ثقيلة جداً.

أولاً:

لم ينجح باباوات مصر منذ البابا كيرلس الرابع حتى البابا شنودة الثالث في وضع نظام داخلي يحكم مؤسسة الكنيسة، وهي فترة طويلة امتدت زهاء قرن وأكثر من زمان كانت فيه مصر تغلي بحركات ثورية وصلت إلى شكلها الدامي في ثورة 1919 وذلك بعد أن جاءت الحرب العالمية الأولى بدعوات الحرية والديموقراطية والحكم الذاتي ونهاية الامبراطورية العثمانية ونشأة “عصبة الأمم”. فقد تقدم مجتمع البشر في محاولات دائبة لوضع آليات التقدم في مجالات القانون والدساتير وحصر القيم الإنسانية العالمية التي تفتح باب التقدم .. ومع ذلك ظلت كنيسة مصر بلا قانون داخلي، وهي هنا تعكس أحدى نقائص الحضارة المصرية القديمة، وهي أن “الفرعون” هو القانون أو الشخص هو المؤسسة وهو كل شيء .. هذه أيضاً إحدى سمات عصر الرئيس جمال عبد الناصر؛ لأن القوانين والتغيير الدستوري جاء لمصلحة الحاكم، وهو وإن كان رجلاً وطنياً مخلصاً لم يعتدي على المال العام ولم يكسب من ديون مصر ولا تاجر بقوت الشعب، وقدَّم مشروعات وطنية لا زال بعضها على قيد الحياة، إلاَّ أن حلول الشخص محل القانون يعمل بشكل دائم على هدم كل المؤسسات ويفتح باب الاستثناء وهو ما يهدد النظام ويحفر قبر الاستقرار.

كانت أول لائحة لانتخاب البطريرك قد وضعها الملك فؤاد الأول لكي يُبعد القمص يوحنا سلامة الذي كانت له علاقة مشبوهة مع سفارة بريطانيا ليأتي بالأنبا يؤانس، وقبل ذلك ضاعت آليات اختيار أسقف الإسكندرية في ضباب عدم التدوين التاريخي الدقيق والاكتفاء بذكر وقائع بلا وثائق، فلا تزال الفترة التاريخية منذ مجيء مار مرقس مصر حتى القرن العاشر، وهي حقبة تمتد إلى ما يقرب من 1000 سنة خالية من مدونات معاصرة، أي وثائق تاريخية كتبها شهود شاركوا في الأحداث؛ إذ لم يصل إلينا إلاَّ تاريخ يوحنا النقيوسي، ثم تاريخ ابن المقفع. وما نراه في ما كتب بعد ذلك إن هو إلاَّ سرد قصص بلا سند تاريخي على طريقة الأستاذة الفاضلة ايريس المصري ومن قبلها القس منسى يوحنا، لهما معاً كل الاحترام على ما بذلاه من مجهود.

وظل عدم وجود أستاذ تاريخ كنسي في الكلية الإكليريكية يطاردنا طوال حقبة امتدت من عصر البابا كيرلس الخامس حتى انتقال الأنبا شنودة الثالث، فلا نجد لدينا إلاَّ التراث الشعبي المسموع، وهو أخطر ما يهدد أي ثقافة مهما كانت؛ لأن التراث الشعبي يدور حول بطولات وإنجازات الأشخاص، ويهمل تماماً ما تركه هؤلاء الأبطال خلفهم من مشاكل وهموم، أهمها انعدام النظرة المستقبلية؛ لأن الحديث عن الأبطال هو حديث الماضي المجيد الباهر الذي لا يحرك الحياة الراكدة والتي لا تبحث عن التقدم.

ثانياً:

من عيوب حقبة امتدت إلى أكثر من 100 سنة، إنعدام التمييز بين الإدارة الكنسية والقداسة. أنا أعرف قداسة البابا كيرلس السادس الراهب المتوحد رجل الصلاة وهو قديس كان يمكن أن يصل إلى ذات مكانة اسحق السرياني لو ظل في الوحدة .. نعم هو قديس، ولكنه لم يترك خلفه مؤسسة كنسية، ونحن نقصد بالمؤسسة على وجه التحديد أن يكون هناك:

1- قانون ينظم حياة الكنيسة – أول مكونات هذا القانون هو أهلية القس والأسقف وما يجب أن يتوفر فيهما من شروط ومواهب، بل ودراسة أكاديمية جادة في معهد أرثوذكسي تؤهله للتعرف على تراث الكنيسة – الكتاب المقدس – التاريخ الكنسي – القانون الكنسي – اللاهوت … الخ.

2- نظام مالي يحترم إنسانية القساوسة الذين يخدمون كنائس (فقيرة)، فقد كنت أسمع عن كنائس الدرجة الأولى – مارمرقس شبرا – العذراء مسرة .. الخ بينما هناك كنائس ليس لها درجة مثل الملاك القبلي مصر القديمة، وهي تجاور مسكن وإقامة القمص مينا المتوحد، ولا تبعد عنه إلاَّ خمس دقائق مشياً. كنت أنزعج لأن تصنيف الكنائس ما بين غني وفقير في كنيسة واحدة هي سمة ظلم اجتماعي يخالف كل تعليم مسيحي.

3- المؤسسات التعليمية، وكان رائد النهضة الذي لا يريد أحد أن يذكر اسمه هو البابا يوساب الثاني مؤسس معهد الدراسات القبطية، وهو مؤسسه بكل ما في هذه الكلمة من معاني .. رحل بعد سحابة سوداء من شك في قدرته على إدارة الكنيسة … لكن ذلك المعهد تراجع في عصر البابا شنودة الثالث، وإن ظل قسم الألحان والموسيقى حياً وكذلك قسم الفن القبطي، لكن – وتأمل – غاب قسم القانون الكنسي – قسم التاريخ الكنسي – أُغلقت مكتبة المعهد أبوابها قرابة 20 سنة.

أنا لا أشكك في حياة القادة، فتلك ليست مشكلتي؛ لأن الحكم على حياة وتصرفات أي شخص هو خاص بالله وحده، ولكن الإدارة الكنسية ليست مسألة شخصية، وإلاَّ لماذا حرصت الدسقولية وقوانين الرسل وقوانين المجامع المكانية والمسكونية على وضع نظام كنسي تحت اسم “قانون”؛ لكي يحمي الحياة الكنسية من عبث أي فرد أو قيادة ويضمن لها الاستقرار، بل والبقاء. والحديث عن التربية الكنسية والكلية الاكليريكية ومناهج التدريس يحتاج الى كتيب فقد نال الكل الإهمال والتراجع الواضح.

ثالثاً:

إذا كانت أحد عيوب الثقافة المعاصرة، وأنا أقصد الثقافة الكنيسة، هي انعدام التمييز بين القداسة والإدارة الكنسية، فإن أخطر ما يُضاف إلى هذا العيب هو العيب الأكبر وهو بالتحديد:

1- عدم التمييز بين الإدارة الكنسية والإيمان، أي العقيدة؛ لأن القانون الكنسي هو إدارة لا علاقة لها بالايمان المسيحي سوى استحسان واختيار ما هو أفضل لحياة الجماعة. فشروط اختيار الأسقف لا علاقة لها بعقيدة الثالوث أو إلوهية الروح القدس، سوى أنه نال أحد مواهب القيادة وهي موهبة لا علاقة عضوية لها بالإيمان نفسه. ولذلك، ما بين لائحة 1942 إلى لائحة 1957 لم يكن تطوراً ولا تراجعاً عن الإيمان، بل كان جهلاً تاماً بالتاريخ الكنسي الذي لم يحدد 15 سنة للرهبنة، وهو شرط وضعه المتنيح الأنبا يوأنس مطران الجيزة لاستبعاد القمص متى المسكين وباقي الجامعيين مثل القمص مكاري السرياني .. فالصراع كما هو معروف كان يدور حول اختيار بطريرك متعلم يفهم العصر … ولكن القيادة في ذلك الحين كانت في يد الحرس القديم بقيادة الأنبا يوأنس مطران الجيزة الذي مات في ظروف غامضة أثناء محاولة عزل البابا كيرلس السادس.

2- انعدام وثائق ومدونات قانونية تؤكد القيادات الكنسية أنها وثائق حقيقية غير مزورة .. آخر هذه المدونات هو المجموع الصفوي لإبن العسال، وهو من إبداعات القرن الثالث عشر، وبعد ذلك نام تدوين القانون الكنسي؛ لأن القانون هو ترياق الأزمة والمرض القديم، أي الشخص الذي يحل محل المؤسسة، والقانون هو الذي يحمي النظام نفسه.

ولذلك ينقض التراث المسموع على المجموع الصفوي، ويُتهم القانون رقم 15 من قوانين المجمع المسكوني 325 بأنه قانون مزور، وطبعاً أصحاب هذا الانقضاض هم الأساقفة الذين لهم مصلحة في كسر القانون؛ لأن هذا القانون يمنع بشكل قاطع نقل أسقف من إيبارشية إلى أخرى، وهذا نصه: “أنه بسبب ما ينشأ من الخلاف والتشويش البالغين قد استحسنا منع العادة التي شاعت في بعض الأماكن المخالفة للقانون الرسولي (15 من قوانين الرسل) فلا يُسمح بعد الآن لأسقف أو قس أو شماس أن ينتقل من مدينة إلى أخرى، وإذا حاول أحد الإكليريكيين، بعد صدور أمر المجمع القيام بعمل من هذا النوع وأصر على المخالفة، فكل ما يقوم به يعد لغواً باطلاً، أمَّا هو (أي الأسقف) فيجب أن يعود إلى الكنيسة التي اُختير لخدمتها أسقفاً كان أو قساً” (الشرع الكنسي – الأب يوحنا كساب – ص 82 – منشورات النور 1988). والقانون 15 هو نفسه ورد في مجامع مكانية أخرى سابقة ولاحقة على مجمع نيقية مثل مجمع سرديقية.

عند مفترق الطرق:

تقف مصر الآن عند مفترق الطرق بين طريق الدولة المدنية والحريات الإنسانية العامة التي جاءت مع ما يُسمى بالربيع العربي وإرهاصات ثورة تونس، ثم ثورة مصر 25 يناير، والدولة الدينية التي تجيء مع أحلام الماضي الذي لم يعرف منذ فجر الإسلام حتى العصر الحديث دولة دينية اسلامية، ومرجعنا هو الأستاذ على عبد الرازق في كتابه: “الإسلام وأصول الحكم”.

فيما بين كابول وقندهار، والقاهرة والإسكندرية ليست مسافة جغرافية فقط، بل حضارة ذات سمات معينة أتاحت لمصر أن لا تكون مثل افغانستان أو غيرها، بل دولة ذات مكانة في التاريخ والحضارة.

والكنيسة القبطية هي بنت مصر، لا يمكن فصلها عن الأم … ليس غريباً أن يدور الحوار حول أسبقية الدستور على اختيار رئيس الجمهورية، فتلك هي طبيعة الأمور، ولذلك يدور عندنا ذات الحوار، وإن كان على مستوى أقل، أي الحوار الخاص بتعديل لائحة 1957 التي ليس فيها أي ذكر للقرعة الهيكلية. والإدعاء بأن هذه اللائحة هي التي جاءت بالأنبا كيرلس السادس والأنبا شنودة الثالث هو قول لا يليق أن يردده أحد مهما كان؛ لأن هذا الإدعاء يعود بنا إلى المربع الخطر جداً، وهو القيادة بلا قانون أصيل، والقيادة بلا تصور للمستقبل، لاحتياجات الجيل الآتي؛ لأن حقبة البابا كيرلس السادس لم تعد معنا، والجيل الذي عاصره ينقرض بحكم قانون الحياة نفسها: الميلاد والموت. ثم أن الجيل الذي جاء في أحضان عصر الأنبا شنودة هو جيل الثورة، وهو جيلٌ لن يرضَ بأن يكون على رأس القيادة شخصٌ أُطلق عليه الرجل الحديدي، وهو اسم لا علاقة له بالمسيحية بالمرة، بل هو اسم وليد المنظمات الإرهابية، لا مؤسسة الكنيسة. أو سُمِّيَ بالرجل الثاني، فهذه التسمية أيضاً هي عيبٌ كبير في منظومة كنسية لا تعرف إلاَّ المساواة بين أعضاء الجسد الواحد، أي الكنيسة جسد المسيح التي لا يوجد فيها أول وثانِ.

إن ما أفرزه عصر الأنبا شنودة الثالث من قيادات في السكرتارية هو استمرار لنفس آليات الأنبا شنودة، ولكن مع اختفاء الكاريزما الشنودية المعهودة. أحد آليات عصر الأنبا شنودة هو بقاء سكرتير المجمع المقدس 25 عاماً، وهو أمر ضد لائحة المجمع يدل على أننا لا نقدر خطر الاستثناء؛ لأنه يهدم النظام، وعندما لا نجد النظام، بل نجد الأشخاص، فإننا نقع في ورطة الوجود في دائرة صراع لا يحكمها نظام أو قانون، بل تخضع آليات الصراع عندئذٍ إلى سلطة كهنوتية مزيَّفة لا تملك حق التصرف في حرية الأشخاص أو في وجودهم على أرض وطنٍ له دستور وقانون؛ لأن هؤلاء الأشخاص لا يعيشون في دائرتين: الولاء للوطن والولاء للكنيسة، ولأن أهم من هذا وذاك، حرص المسيح نفسه على كرامة ومكانة كل الخطاة الذين تعامَل معهم من السامرية الزانية، إلى بطرس الجاحد، ومروراً بشاول مضطهد الكنيسة، وليس انتهاءً بمرقس الذي هرب عرياناً ليلة القبض على المسيح في الستان .. هؤلاء لم ينلهم الاحتقار، بل غمرهم احسان المحبة.

هل تتوفر الرجولة والصدق في قيادات قبطية تضع لائحة جديدة تراعي فيها الوضع المعاصر، واحتياجات المستقبل وعودة المؤسسات التعليمية ونزاهة وشرف القضاء الكنسي.

هذا حديث المستقبل وله عودة

التعليقات

15 تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة