يا عشقي المصلوب

يا يسوع، “يا عشقي المصلوب”. أنت معلّقٌ على خطايانا قبل أن رفعوك على خشبة. قتلتك خطايانا فيما كنا نلهو بها. نُبصرك الآن “لا منظر لك ولا جمال فنشتهيك” مُدمّى، مطعوناً، ولكن غير مكسور، موضع محبّة الله.

تدين معاصينا بجسدك ولا تديننا؛ لأن قلبك لا يحتمل أن يموت فيه إنسانٌ.

نحن مشرّدون يا سيّد. لقد مددت ذراعيك كي تضمّنا فتُعيدنا إلى أبيك إنسانيةً واحدةً مطهّرةً؛ كي لا يلفظ حكمه فينا يوم الدينونة.

أنت تقول له: ما لهم وللموت.

اغفر الزلات للكاذبين والسارقين والقتلة؛ لأنك تحبّهم كما تحب الطاهرين. جميعهم أبناؤك وجميعهم إخوة لي. أنت كلّهم تحضنهم بالرحمة، وما من واحد يَخلُص إلاَّ بهذه الرحمة.

أنت أوحيت للتلميذ الحبيب: “الله محبة”. هذا فَهِمَ أن المحبة هي أنت، ومَن أحبّ تكون أنت ساكنه. ومَن كفر تكون أيضاً ساكنه. تطلب منه فقط أن يؤمن بغفرانك وإيمانه. هذا يُرجعه إليك. تغفر له لأنك تشتاقه في كل حين.

إنك تشتاق إليه؛ لكونه وليد محبّتك التي لا تريد أن يُطرد منها أحد. فإذا نسيها ماذا يبقى له في الذاكرة؟ كبارنا قالوا إنك أوجدتنا كي لا يبقى حبُك أسير كيانك.

يا أبتاه، أنت إلهٌ يمتدّ، يضمّ وبعثت بي كي يعرف الإنسان ذلك، فيحيا ويعرف أنه نسيب الله. أنا بتّ عشيره حتى موتي، فلا يعرف – كما كان الأوائل – أنك فوق وأنه تحت. ليس من مدى بينك وبينه.

كان يعرف القدامى أنهم مقرّبون. لما عرفوني أنا باتوا يعلمون أن نعمتك جعلتهم أفضل من ذلك. عرفوا أنهم بك لصيقون. وهذا اقتضى جرحي. لقد أمرت بجرحي حتى يُحبّوك فيُشفوا. وإذا شُفوا غنّوك واستلموا الفرح. والفرح هو السماء.

أنت ما أصعدت أحداً إليك إلاَّ لمَّا أنزلتني إليهم. انهم سيصعدون معي بعد قليل ليتمّ فرحهم فينا، فينكشف لهم ملكوتك. قلت لهم إنه فيهم ثم ترجمت لهم ذلك بموتي.

يا يسوع، خذني إلى هذا الحب الذي تُكفِّر به ذنوبي كل يوم.

لا تجعلني أرى غير وجهك؛ لأن كل وجه آخر يلهي.

احصرني في محبتك؛ حتى لا تدغدغني أهوائي، فيرى الناس نورك مرتسماً على وجهي، ولكن عرّفه أن هذا النور ليس منه، ولكنه مسكوب عليه بحنانك.

أنت اختلطت بنا لنذوقك، والعلاقة بيننا وبينك بعد أن أتممت العشاء الأخير، أنك أعطيتنا ذاتك بشكل خبز وكأس حتى نجوع إليك دائماً ونعطش إليك، أي حتى تزول المسافة التي كانت بيننا وبين أبيك.

وإذا دخلت إلينا بهذه الصورة لا نظل حاسبين أننا أخوة باللحم والدم اللذين نحن بهما، فبتنا أخوة بروحك.

نحن لا نأخذك إلينا فقط. أنت تخطفنا إليك.

أنت تُظهر أن هذا الذي نتناوله على مائدة الخلاص هو إياك الجالسُ عن يمين الآب. نحن نرى هذا بأن ذراعيك الممدودتين على الخشبة تضمّاننا إليك وإلى أبيك بقوة روحك. نعود إلى ذراعيك حتى لا نتشتّت في دنيانا، وقد أصبحت أنت دنيانا حتى لا نتلهّى بسواها فنضجر ونموت.

لقد قلت مرةً: “مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. نعرف أن هذا شاقٌّ على قوانا، ولكنا نؤمن أنك تحمل شقاءنا فنتعزى بكل كلمة خرجت من فمك.

وكذلك قلت: “أنتم أنقياء بسبب من الكلام الذي كلّمتكم به”. أن نسمع فقط إلى ما قلته ولا نستمع إلى سواه، هذا يجعلنا خلائقَ جديدةً. من بعد هذا ننبسط في ملكوتك.

سُد علينا يا يسوع لنطمئن إلى أن سلامك فينا. هذا سلامٌ تعطيه أنت مِن جراحك، فتشفى بها جراحنا، فلا نرقد رقدة الموت.

الحياة الجديدة التي دعوتنا بها صارت فينا وتصير إذا حفظنا وصاياك. إن هربنا من وصاياك نسعى إلى سرابٍ، فعدم. لا ترمنا يا رب في العدم الذي ليس فيه كلامك.

انتشِلنا دائماً من هوى السقطات التي تحوّلنا عن رؤية صليبك، فتميل نفوسنا إلى كلام الخديعة. والخديعة هي “شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الوجود”. هذه كلها ميتات نعرفها تعطّل فاعلية صليبك فينا.

نريدك يا سيد، لا تُخزنا ولا تجرّبنا بذوق المعاصي.

أنت جعلت القديسين لا يُرِدونها. ونحن نسلك كأن القداسةَ عبءٌ، أو كأنها مستحيلةٌ.

حوّلنا إلى ما تشتهيه لنا أنت؛ حتى لا يكون لنا مشيئةٌ غير مشيئتك، فنتّحد بك في الصميم.

قوّم أفكارنا كي لا نخطئ فكرك، نقِّ نياتنا لنتقبّل بفرح ما تنويه لنا، وهكذا نصبح عشراءك حقاً.

لاصقنا في ضعفاتنا نفسها، نلصق بك، فنستمدّ قوّتك ولا نخشى الموت.

يا سيدي أبعد عنا كل شبح يأتي إلينا من مملكة الموت، وأهِّلنا إذا ما اقترب أن يلقانا الآبُ بقوة قيامتك.

لا تطرحنا من أمام وجهك في ساعتنا الأخيرة حتى لا تدهمنا الظلمات.

أوضِح لنا أن فِراقنا هذه الأرض، إنما بابُ احتضانك.

روّضنا على ذلك كل حين، فإذا ما عرفنا اقتراب هذا الفِراق، نُدرك أننا لسنا مقصيّين عن وجهك.

وجهك يا رب، وجهك عزاؤنا في عالم التعب. لا تسمح بأن نيأس من إمكان دنوّنا إليك لأن هذا يكون الموت.

ادعُ كل مَن مات في ساعة موته إليك؛ لأنه إن لم يسمع صوتك يبقى أصمّ.

اكشف له وجهك لكي يقبل حضن أبيك.

كل الذين يموتون يدخلون برحمته. هذا قاله كبارنا الذين تروّضوا في الجهاد.

أُمك لا تُطيق أن يُقيم أحدٌ في النار. وقد قلت أنت عند نزاعك للتلميذ الحبيب إنها أُمه، ففهمنا أنك تريدها أُمّا لكل تلميذ حبيب. هي لا ترضى بموتِ أحدٍ إلى الأبد. فإذا خلصوا جميعاً يرتدون ثوب مريميّتهم.

هذا هو عرس قانا الجليل، سيدي.

هذا العرس كان صورةَ عُرسِك مع الإنسانية البارّة بالدم.

هذا إياه سيكون العُرسُ الأبديّ؛ إذا جَمَعتَ أحباءك من كل أصقاع الدنيا، فتنتهي آلامهم ويطربوا بك. الذين خطفتهم إليك سيتبعونك فوق حيث تسير.

كل ما عندنا هنا من صلاحك تهجئةٌ لهذا اليوم الأخير. القيامة التي حقّقتها من بدء آلامك، وذُقنا منها قيامات بحنوّك، سنراها قيامةً أخيرةً لنا أيضاً، أي جمعاً للإنسانية المصطفاة إلى حبك.

بعد هذا نعزف مع الملائكة على قيثارات الظفر، وكل لحظة من السماويات تكون فينا ترتيلةً جديدةً.

وهذا كله سيكون في السماء صدىً لبعد ما نقوله بعد يومين هنا: المسيح قام.

المطران جورج خضر – النهار 2/4/2010

التعليقات

3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة