مصر وكنيسة مصر – 11 القرعة – والقرعة الهيكلية والتنصل من المسؤلية

الرئيس القادم وضباب الاتهامات

تدور معركة اختيار رئيس الجمهورية وسط سيل من الاتهامات يقصر الوقت تماماً عن التحقيق في صحة بعضها واكتشاف صدق ما فيها .. لكن حرب الإشاعات هي حيلة قديمة جداً مارستها روما عندما كانت تحكم العالم .. فقد أشاع مجلس الشيوخ في روما أن اتباع يسوع يأكلون لحم طفل صغير، ويمارسون علاقات جنسية شاذة، وأنهم خونة لأنهم يرفضون عبادة الآلهة الرومانية اليونانية.

على الضفة الأخرى من النهر شمل سيل الإشاعات الأنبا بيشوي والأنبا يؤانس، ومن يدري ماذا يدور في الخفاء؟ .. لا تختلف الكنيسة إذن عن الوطن. وإذا صحت هذه الاتهامات، فهو أمرٌ ليس في صالح الأقباط على الإطلاق؛ لأن الأقلية الدينية والعددية إذا خسرت مكانتها الممتازة المرتكزة – في الأساس – على الأخلاق الجيدة والمثال الصالح، في مجتمع لا يقبل المساواة ولا يسعى نحو المواطنة، أصبحت تسير نحو العدم، وإن في بطءٍ شديد قد لا تلحظه العين؛ ذلك لأن الانحطاط الخلقي في مجتمع لا يعادي الانحطاط ولا يقاومه، يجعل السقوط سهلاً ومقبولاً.

في علوم الاجتماع بكل فروعها قاعدة لا تقبل الدحض ولا تنكرها مدارس علم الاجتماع وهي أن:

“مصيرُ الفرد قدرٌ، ومصيرُ الجماعة قانون”

لأن مصير الجماعة لا يخضع للقدر، بل للقوانين الاجتماعية التي تحكم عملية الحياة والموت الاجتماعية.

فالفرد يختفي وتذوب ذكراه، وقد يموت لأتفه الأسباب أو أعظمها، ولكن الجماعة التي ينتمي إليها الفرد لا تموت بالصدفة؛ لأن قانون الحياة والبقاء هو التقدم، وقانون الموت هو الانعزال والقطيعة التي تقطع أوصال العلاقات الإنسانية وتهمِّش الأقلية.

قانون الحياة والبقاء هو السعي نحو الأفضل، وقد يكون الأفضل في تراث قديم أو فكرة جديدة، ولأن اختيار الأفضل هو تأكيدٌ على وجود الحرية، صار الأفضل صنو التقدم. أمَّا قانون الموت، فهو تقليد الأغلبية تقليداً أعمى والسعي في نفس أسلوب حياة الأغلبية التي لديها – أي الأغلبية – ما يجعلها ترفض الأقلية. وعندما تقلِّد الأقليةُ الأغلبيةَ، فإنها تحفر قبرها بيدها؛ لأن الأغلبية لديها امكانيات أوفر، وفرص أكبر في التقدم.

ولعل خير مثالٍ من واقع الحياة السياسية المصرية هو الحوار الذي دام عدة سنوات مع الجماعات المسلحة، والتي حاربت الدولة بالسلاح، وانتهى إلى نتائج ملموسة، بينما انعدم الحوار القبطي – القبطي، وتشبَّه الاكليروس – ليس الكل طبعاً – بجماعات التكفير، فصدرت منشورات تحرم ذلك الدير، وهذه الكتب لمجرد ممارسة التكفير، وهو تشبُّه بالأصولية السياسية التي تتلبس رداء الإسلام.

قانون حياة الجماعة متعدد القواعد والخوض فيه يحتاج لمساحة أكبر، ولكن الجماعة – أغلبية كانت أم أقلية – التي تمارس الإقصاء، تدخل في نفق مظلم لأن الإقصاء هو القطيعة والجفاء وهو مرض اجتماعي ينتقل إلى الأغلبية ويصبح أداةً من أدوات الصراع وبذلك يقتل الحرية .. وقتل الحرية هو نهاية التقدم الإنساني.

يطلب بعض قراء موقع الدراسات القبطية والأرثوذكسية تخصيص باب بعنوان “المصريات”، وهو طلب كريم وعزيز ومحل بحث دائم لتقديم الأفضل، ولكن في الوقت الحالي أُحيل القراء الأعزاء على أكبر مدونة مصرية وهي: تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة للدكتور عبد العزيز جمال الدين – مكتبة مدبولي. وهو عملٌ كان من المفروض أن يقوم به مسيحي مصري، ولكن تجفيف دراسة التاريخ الكنسي القبطي في المعاهد القبطية، كانت ولا تزال هدف الاستبداد الكهنوتي؛ لأن دراسة التاريخ هي العدو الأول للاستبداد، وهي الحكم الصارم على الانفلات في إصدار القرارات التي لا تعرف المرجعية. ولكن يجب أن نشكر الباحث د. عبد العزيز جمال الدين على الاضافات التاريخية الممتازة لعمل لم يحظَ بانتباه السلطة الكنسية لأن التاريخ هو “بعبع” أو “عفريت” أي سلطة؛ لأنه يقدم: نماذج البطولة – الشهادة – تعدد الآراء – النضال من أجل المستقبل – مقاومة الظلم، ولذلك يخشى المستبدون التاريخ لأنه يؤكد نهاية الاستبداد مهما طال أمده، في الوقت الذي يظن فيه المستبد أنه خالد لا يموت، ولذلك يندفع بكل قواه نحو الاستبداد.

الضباب الإعلامي، والقرعة:

لا يختلف الضباب الإعلامي الذي يدافع عن لائحة 1957 وعن القرعة الهيكلية جوهرياً عن الضباب الإعلامي المصري الذي عشنا معه منذ عام 1952 وسقط بعد 1967 ثم عاد بعد حرب 1973. لا يسمح هذا الضباب بحوار العقل والمنطق ولا يقبل الأمانة، وحيلة الأفكار المطلقة العامة السابحة في بحر من الكلمات، تخدع السذج.

طبعاً كلمة “قرعة” موجودة في الكتاب المقدس بعهديه، ولكن قبل هذا وذاك، هل القرعة في العهد القديم هي قرعة هيكلية؟ بكل تأكيد لا. ولكن قبل أن نشرح ما هي القرعة علينا أن نسأل: هل هذه ممارسة كنسية صحيحة؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال إجابة وافية يجب أن نضع أمام القارئ العزيز بعضٌ من النقاط الأساسية:

أولاً: ما هي مرجعية صحة أية ممارسة كنسية؟

القانون الكنسي هو المرجعية الأولى والأخيرة. وعلى القارئ الذي لا يصدق هذه العبارة أن يقدم لنا سنداً قانونياً من قوانين الكنيسة من عصر الرسل حتى قوانين البابا خرستوذولوس البابا 66 (1047 – 1077)؛ إذ لم يرد شيءٌ صريحٌ، ولا حتى إشارة ضمنية ولا حتى عبارة ظنية عن ثمة قرعة لاختيار البطريرك، أو الأسقف، أو القس، أو الشماس، وهي رتب الكهنوت التي أفرد لها القانون الكنسي العديد من الأبواب لشروط الاختيار، وتحديد مسئوليات كل رتبة، وكيفية وإجراءات محاكمة كل رتبة .. الخ.

فإذا غابت القرعة الهيكلية من القوانين الكنسية الثابتة، لا سيما تلك التي تعود إلى بداية تكوين الكنيسة، مثل قوانين الرسل والمجامع المكانية في القرون الثلاثة الأولى والمجامع المسكونية من 325 مجمع نيقية – 431 مجمع افسس، فعلى أي سند يتكئ المتشدقون بتلك الممارسة؟

ما أكثر ما قيل عن مسئوليات وخدمة الرتب الكهنوتية، فإذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف يحدد القانون الكنسي الشروط التي يجب أن تتوافر في الأسقف ورسامته، ثم يترك موضوع القرعة الهيكلية، إلاَّ لأنها لم تكن طريقةً معروفةً كطريقة قانونية لاختيار أيٍ من رتب الكهنوت، وفي مقدمتها أسقف الإسكندرية.

ثانياً: أمام صمت التاريخ الكنسي، وغياب هذه الممارسة عن المراجع التاريخية المعتمدة مثل يوسابيوس القيصري – سوزمين – ثيئودوريت – جناديوس – يوحنا النقيوسي – سقراط وغيرهم من مؤرخي الكنيسة، يظهر بقوة، هذا الاسلوب الذي جرى اعتماده في العصر الوسيط وفي مناسبات محددة لا تزيد على 10 مرات من 117 مرة، هي عدد بطاركة كرسي الإسكندرية، آخرها البابا كيرلس السادس ثم البابا شنودة الثالث .. أليس هذا الرقم كافياً لكي يعلن لنا عدم تاريخية هذه الممارسة؟ … أليس من سخف القول أن تصبح 10 مرات هي القاعدة التي تسود على 107 مرات، أي 10 اختيارات في مقابل 107 اختيارات؟ .. هل لدينا الوعي والإدراك لكي نرى أننا إزاء ممارسة فرضها الزمان علينا في ظل تراجع الإفراز والإخلال بالشروط التي حددها رسول المسيح بولس التي يجب أن تتوافر في الأسقف، في فترة بداية التشريع الرسولي (راجع رسالة القديس بولس ليتموثاوس الأولى ص 3 : 1 – 7)؟

ثالثاً: وماذا عن مرجعية الكنيسة الأولى والأخيرة التي تسبق القانون والتاريخ معاً، وهي أساس القانون الكنسي، والمفسِّر الوحيد الشرعي للتاريخ، أي العقيدة الأرثوذكسية نفسها؟ .. كيف نفهم الكهنوت نفسه من خلال ما استقر في تراثنا ابتداءً من كتاب ذهبي الفم إلى – الأريوباغي – شرح الآباء على رسائل القديس بولس؟ وهذه المصادر كلها تؤكد لنا أن الكهنوت دعوة من الله، تلاحظها وترعاها الكنيسة، أي شعب المؤمنين، وهؤلاء هم الذين يكتبون التزكية، ولهم حق الاعتراض على رسامة الأسقف – القس – الشماس أيضاً .. فإذا كانت هناك دعوة من الله للخدمة، وكان لدينا شعبٌ يفهم ويفرز هذه الدعوة، فكيف نعيد السؤال مرةً أخرى إلى الله نفسه بهذه الخدعة أو الحيلة؛ لكي نتخلص من مسئولية الاختيار ومن مسئولية مراقبة، بل ومحاسبة الذين أفرطوا في استخدام نعمة الكهنوت وحولوه إلى سلطانٍ كاذبٍ للقتل المعنوي ونشر النميمة وخدمة الكذب؟ لو كان الكهنوت بالقرعة، أياً كان نوع القرعة، فلماذا تقتصر هذه الممارسة على اختيار البابا البطريرك دون باقي رتب الكهنوت؟!!

مع ملاحظة أن كلمة القرعة هي كلمة مطاطة في لغتنا العربية، تعني هذه الكلمة “تقسيم الأرض” كما ورد في العهد القديم (راجع الفقرة الخاصة بالأوريم والتميم).      وهنا بالذات لم تكن هناك ثلاث ورقات، وبعد قداس إلهي. إن هذا التصرف هو استخفافٌ بالذبيحة الإلهية؛ لأن الرب المذبوح على المذبح، والحمل الحي إلى الأبد، وضع أساس الخدمة بالدعوة، ثم ثبَّت هذه الدعوة بالمواهب الروحية بحلول الروح القدس نفسه (الأقنوم) في المؤمنين، ولكن – لاهوتياً – المسيح الرب فينا، والروح القدس حاضر فينا إلى الأبد، ومع ذلك نحن – بهذا الأسلوب – نقول له: إننا لا نعرف مَن هو الذي نريد، وكأننا أُصبنا بالعمى الروحي.

بينما كان الرسل يقيمون القداس الإلهي، وهي الممارسة التي ردت حسب الترجمة البيروتية العرجاء “يصومون ويخدمون الرب”، ولكن حسب الأصل اليوناني “يصلون الليتورجيا” (أع 13 : 2)، “قال الروح القدس افرزوا لي شاول وبرنابا للخدمة” ولم تكن هناك قرعة هيكلية بالمرة في اختيار شاول وبرنابا، بل لم نسمع عن القرعة في كل أسفار العهد الجديد سوى فيما حدث عند اختيار متياس، وهو الحدث الفريد الذي وضع متياس ضمن الأثنى عشر رسولاً خليفةً ليهوذا الخائن، وكان اختيار الرب يسوع وحده ليهوذا هو سبب القرعة؛ لأن الرسل لم يختاروا بعضهم البعض، ولكن الرب هو مَن كان قد اختارهم. يؤكد ذلك ما ذكره القديس بولس عن شروط اختيار الأسقف، دون أن يذكر القرعة ضمن هذه الشروط. ومرةً ثانيةً، أحيل إلى ما سبق وذكرته في الشروط الخاصة باختيار الأسقف في رسائل القديس بولس.

حسب الايمان الأرثوذكسي، أي العقيدة، الدعوة نراها واضحةً في كتاب الرسامات الثابت في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وما يُتلى هو تزكية الشعب، وقد سبق هذه التزكية الرؤيا الواضحة لدعوة الله.

التاريخ الكنسي – شذرة عن كتاب تاريخ البطاركة للعلامة ابن المقفع:

على الرغم من أن العلامة القبطي ذكر أنه عاد إلى كتب المؤرخين القدامى وذكرهم جميعاً بالاسم، إلاَّ أنه أضاف ما استقر في التراث القبطي دون ذكر أي وثائق تاريخية من كبار المؤرخين، ولذلك يعتبر كتاب “تاريخ البطاركة” هو قراءة للتاريخ الكنسي بأثر رجعي – أي تدوين التراث القبطي المعاصر ليس حسب الوثائق، بل حسب ما نُقِل من تراث مسموع، وهو لا يحمل أي طعن في صحة ما ورد، بل يؤكد الوعي القبطي، ومع ذلك يظل الضعف المحيط بتاريخ البطاركة واضحاً؛ لأنه لم يقدم لنا أي وثيقة تاريخية.

إلى عهدٍ قريب كان مجيء القديس مرقس إلى مصر هو ما دُوِّن في التاريخ القبطي دون مراجع، ولكن اكتشاف بردية “مار سابا”، وهي جزء من رسالة للعلامة أكليمنضس السكندري تؤكد مجيء القديس مرقس من روما، وأنه هو بنفسه اختصر الإنجيل من أجل تعليم الموعوظين في أول مدرسة لتعليم الإيمان المسيحي في العالم كله في الإسكندرية، وهو ما يشرح لنا غياب بعض آيات من الإصحاح 16 من إنجيل مرقس من بعض المخطوطات اليونانية، وهو ما أشار إليه الأب متى المسكين في شرح إنجيل مرقس، وانطلقت الحناجر بالشتائم والقدح، بل وعندما حاولت نشر بردية الأصل اليوناني مع ترجمة عربية وتحقيق للنص، لم أنجُ من غضب الأنبا شنودة الثالث؛ لأنه كان يظن أن وجود القديس مرقس في روما يؤكد رئاسة بطرس، وهو موضوع لم يكن معروفاً في روما ذاتها قبل عصر البابا داماسوس الأول (366 – 383)؛ لأن فكرة رئاسة بطرس على كنائس المسكونة بدأت بعبارة واحدة، وهي أن بابا روما إنما يتكلم “بفم بطرس”. فيما بعد احتفظ البابا جريجوريوس الأول بلقب بابا لنفسه، وكان ذلك في القرن السادس (540 – 604)، وكان هذا الرجل من أعظم أساقفة روما، كان والده عضواً بمجلس الشيوخ، وباع كل ما يملك ودخل الحياة النسكية، وأسس سبعة أديرة. وبعد القرن الرابع بالذات تم تزوير رسائل القديس كبريانوس حتى يؤكد التزوير رئاسة بطرس، أي قراءة العهد الجديد بأثر رجعي، أي باستخدام معلومات متأخرة لفهم ما كُتِبَ قبل هذه المعلومات المتأخرة بما يقرب من 400 سنة.

ولكن حسب تحقيق د. عبد العزيز جمال الدين لمخطوطة تاريخ البطاركة الجزء الثالث المجلد الأول ص 732 كان أسقف نسطوري هو الذي عرض فكرة الورقات الثلاث، والتي رفضها الأراخنة من العلمانيين.

لكن السؤال الحاسم هو: هل هذا معناه إن رسامة الأنبا كيرلس السادس، وقد أُختير بناءً على نظام القرعة، والأنبا شنودة لم يُرسم وإنما جرى تجليسه؛ لأنه رُسِمَ أسقفاً، ورسامة الاسقف لا تعاد .. هل معنى هذا أن كل ما لدينا هو باطل؟

الجواب بالنفي طبعاً. وإن كان السؤال يكشف عن فضيحة عقائدية كبرى لا يمكن الاستهانة بها، وهي أن شرعية أي شيء في الكنيسة من المعمودية حتى رسامة البطريرك تأخذ شرعيتها ليس من الممارسة، وإنما من الرب يسوع المسيح نفسه، فهو صاحب وواهب السرائر، وهو ينبوع الحياة الذي لا يمكن أن يحل محله آخر، والاكليروس هم خدام السرائر، وهي لا تنبع منهم، وليس لهم سلطان عليها، ولا هم نائبون عن المسيح؛ لأن المسيح ليس غائباً لكي ينوب عنه آخر، بل كل من يخدم يستمد شرعية خدمته من المسيح رأساً، وصحة وقانونية أي عمل كنسي تعود إلى الرب نفسه الذي يقدِّم له الأسقف والقس والشماس يديه وفمه ولسانه لكي يخدم بها الرب يسوع نفسه حسب تعبير ذهبي الفم في العظة 86 على إنجيل يوحنا، حيث يقول: “لا يستطيع ملاك أو رئيس ملائكة أن يغيِّر شيئاً أعطي بواسطة الله؛ لأن الآب والابن والروح القدس هم الذين يملكون كل شيء. القس يقدم فقط لسانه، ويقدم يديه؛ لأنه ليس من الحق أن الذين دخلوا الإيمان في أسرار الخلاص، يصيبهم أي أذىً بسبب شر إنسانٍ آخر”، فالقانون الكنسي الذي ينظم حياة الكنيسة ويحمي وحدة جسد الرب يحفظ لنا عدم الخلط بين قداسة الأسقف والقس، وإلوهية النعمة الخاصة بالأسرار، ولكن تعدي القانون في الرسامات يخلق الصراعات الشخصية، وهو ما نراه الآن من تناحر وسباق بين الأساقفة للوصول إلى كرسي مار مرقس. والادعاء ببطلان كل ما تم بواسطة البطاركة الذين نُقِلوا من إيبارشيات مثل البابا يوساب الثاني هو هدم لكل ماضي الكنيسة. والادعاء بأن كل ما قاموا به باطلاً، هو مجرد ادعاء وفزاعة لا أصل إيماني لها. أمَّا ما يتأثر هنا ويُهدم، فهو وحدة الكنيسة، والسماح بدخول الصراعات الشخصية التي تلوث حياة الشعب، أمَّا الكهنوت، فلم يُهدم. ولذلك عندما يصف القانون الكنسي كل ما يقوم به الأسقف الذي صار بطريركاً بأنه “باطل”، فهو باطل من جهة الشهادة، ومن جهة إعلان المحبة والخدمة بالتواضع الإلهي الذي قبل فيه الرب يسوع نفسه أن يغسل أرجل تلاميذه مثل “عبدٍ”؛ لأنه أخلى ذاته وأخد صورة العبد (فيلبي 2: 6)، هذا في الوقت الذي يكون فيه الأسقف المنقول قد رفض أيقونة الرب وصار أيقونة الطمع في ما هو أعظم، ويكون قد أحب النصيب الأكبر بحسب تعبير كتاب الرسامات.

كنائس العالم:

حجة الذين يدافعون عن لائحة 1957 هي أن كنائس العالم الأرثوذكسي تسمح بالنقل. ولكن لنأخذ أقرب كنيسة، وهي كنيسة الروم الأرثوذكس في مصر وسوريا ولبنان. أساقفة هذه الكنائس درسوا في معاهد اللاهوت – القديس سرجيوس في باريس – البلمند في لبنان – أثينا وتسالونيكي، وكل هؤلاء لهم مؤهلات دراسية تبرر تجاوز القانون الكنسي. أمَّا الحديث عن اساقفتنا فهو يدعو إلى الخجل لا سيما ذلك الذي يصف نفسه بالرجل الثاني واللاهوتي الثاني بعد قداسة البابا شنودة دون أن يكون قد درس شيئاً بالمرة وبدون أن يكون قد أخذ هذا المكان من هيئة لها مكانتها الاكاديمية أو الكنسية.

وعلى ذلك، فكنائس العالم التي تسمح بنقل الأسقف من مكان لآخر، لديها قانون يمنع رسامة القس لا الأسقف وحده إذا لم يكن قد نال درجة علمية من معهد لاهوتي، وفي مصر لا تجد بالمرة قساً انجيلياً رُسِمَ قساً دون أن يكون من خريجي كلية اللاهوت الإنجيلية .. ولا داع للإحراج.

القرعة Κληρος

لست أدري ما هو الحل بشأن غموض الفكر المعاصر الذي ارتبط بنمط سلوكي اجتماعي مؤداه الاعتداد بشهرة المتكلم، مكانته الاجتماعية أو الدينية، عدد الأتباع من البسطاء والسذج، ثم قدرته على شراء ساعات في الفضائيات أو أعمدة في بعض الصحف للترويج لما يريده من أهداف. عموماً هذه غابة كثيفة لا يقطعها إلاَّ البحث العلمي واللغوي والتاريخي واللاهوتي الذي يكشف ضحالة أصحاب الشهرة وأساتذة الكاسيت.

“القرعة” في اليونانية هي الكلمة الكلاسيكية Κληρος التي دخلت اللغة العربية “إكليروس”، ومعناها السائد شعبياً هم الأساقفة والقساوسة. هذا لغوياً غير صحيح، ولكن المعنى الأصلي هو الذين أخذوا “نصيباً وميراثاً”، وهو الروح القدس نفسه حسب كلمات سفر الأعمال لأن الرسول بطرس يوبخ سيمون الساحر ويقول له: “ليس لك نصيب ولا قرعة في هذا الأمر” (أع 8: 21). والنصيب هو الميراث السماوي (رؤ 22: 19)، وهو المسيح نفسه: “اختارت مريم النصيب الصالح” (لو 10: 43)، وهو ما تؤكده الليتورجيا: “أجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نتناول من قدساتك …. ونجد نصيباً ويراثاً مع جميع قديسيك”. هذا وقد اقتصرت الترجمة السبعينية على استخدام كلمة واحدة، وهي الكلمة السابقة في مقابل الكلمات العبرانية الآتية:

1- الأوريم والتميم – الأوريم من “أور”، أي نور، وتميم من الأصل “توم”، أي الكمال. والكلمتان تجيئان دائماً معاً (راجع خروج 28 : 30 لاويين 8 : 8 عزرا 2 : 26 – نحميا 7 : 65). وعلماء العهد القديم يؤكدون أن الكلمتين تطلقان على حجرين لكل حجرٍ وجهان أحدهما أسود، والآخر أبيض، وكان التقاء الحجرين معاً في لون واحد هو الأبيض يعني الإيجاب، والأسود يعني النفي. ومن الملاحظ أن كل النصوص الخاصة بالأوريم والتميم لم تخص الأنبياء، بل الكهنة لأن هذا النوع من القرعة خاص بالحياة اليومية.

2- القرعة في العبرانية هي “ج و ر ل”، وتنطق “جورال”، وقد ردت 77 مرة في النص العبراني، والكلمة معروفة في العربية القديمة وتعني الحجر stone ومن النصوص السابقة الخاصة بالأوريم والتميم كان إلقاء الحجرين هو الممارسة الشائعة في يوم الكفارة لاختيار تيس عزازيل (لاويين 16 : 8 – 10)، بل كان إلقاء الحجرين هو طريقة اختيار من سيسكن في أورشليم بعد العودة من السبي (نحميا 11 : 1)، فهذه الطريقة كانت لتفادي النزاع، وهي نفس الأسلوب في تقسيم الأراضي بواسطة يشوع (عدد 36 : 2 – 3 يشوع 14 : 2 و15 : 1) ومن هنا بالذات جاءت كلمة قرعة = نصيب، وهو ما سنراه بعد ذلك في الترجمة اليونانية.

الكلمة اليونانية في العهد الجديد:

وردت في معرض الكلام عن آلام الرب (مرقس 15 : 24) وهو إلقاء القرعة على رداء الرب يسوع، وهو نفس التعبير المستخدم في سفر الأعمال (1 : 26) إلقاء القرعة لاختيار الرسول الثانى عشر، خليفة يهوذا.

والمعنى المشتق من الكلمة، أي النصيب، وهكذا قال الرسول بطرس لسيمون الساحر :”ليس لك نصيب ولا قرعة في هذا الأمر (مواهب الروح القدس) (أع 8 : 21) وهو نفس المعنى في (أع 26 : 18) واستخدم الفعل κληροω في أفسس 1 : 11 الذي لنا فيه “نصيباً”.

ولذلك جاءت القرعة، أي تحديد نصيب زكريا في خدمة الهيكل، وهذه ربما كانت بواسطة الأوريم والتميم، ولكن صمت شرح إنجيل لوقا للآباء لا يسمح لنا حتى بإبداء الرأي حتى لا نقع في ذات أخطاء من يدعون المعرفة.

القرعة خدعة تقوية للتنازل عن المسئولية:

يسبق القرعة ترشيح وتصويت حددته اللائحة، فهي لا تعترف بالصوت العام لشعب الله. يسبق القرعة:

– الطعون

– التصويت

وبالرغم من ذلك، نضع الله أمام الأمر الواقع: نحن اخترنا الثلاثة، وعلى الله أن يختار واحداً من هؤلاء الثلاثة، أو يرفض الثلاثة إذا ظهرت ورقة رابعة بيضاء، أو يُكتب عليها يسوع المسيح هو الراعي الصالح، وهذا ما كان يحدث في العصر الوسيط.

تأمل الخطوات التي حددنا فيها دور الإرادة الإلهية، ثم يدخل سر الإفخارستيا الذي لا علاقة له بالقرعة، فهو للحياة الأبدية – غفران الخطايا – الشفاء – وحدة جسد المسيح الكنيسة، أي لا علاقة للإفخارستيا بالقرعة على الإطلاق. ولذلك، فالإدعاء بأن القرعة تجرى على المذبح لأن المسيح موجود على المذبح هو إنكارٌ مقنَّع لوجوده دائماً معنا إلى الأبد في القداسات، وقبل القداسات، وبعد القداسات؛ لأنه رأس الكنيسة جسده الذي لا ينكره مهما كانت النواقص التي فيه.

إذن، نحن نريد أن نتنازل عن مسئولية الاختيار وننسب هذا الاختيار إلى الله. هذا خداع لا يجوز بالمرة، وهذه هي الأدلة على ذلك:

1- نحن الذين اخترنا الثلاثة، وأبعدنا البعض. إذن نحن حددنا دائرة الاختيار.

2- نحن الذين فرضنا الرأي على الله بالترشيح، وإبعاد غير المؤهلين وحصرنا الاختيار في ثلاثة.

3- لم نترك لله نفسه حرية الاختيار التي أُعلنت في الكتب المقدسة والتي وضعت شروط اختيار الأسقف في (1 تيمو 3: 1 – 7)، وهي محصلة التعليم عن القداسة والحكمة والإفراز (التمييز)، وقبل هذا وذاك المحبة.

ولذلك كان من الطبيعي أن تكون هناك حرباً طاحنة، مُعلَنة أو غير مُعلَنة بين رجلٍ داس قانون مجمع الأساقفة، وشغل منصب سكرتير المجمع طوال 25 عاماً، وكانت التقوى الأرثوذكسية كافية لأن تلزمه بأن يتنازل عن السكرتارية لآخرين، ولكن لأنه من أهل الثقة لا من أهل الخبرة صار له تاريخ معروف في مطاردة من يختلف معه بكل الوسائل، وبين آخرين من الطامعين في مركز أكبر.

كيف يجلس على كرسي مارمرقس من غابت محبة الأعداء من حياته وتصرفاته، وهو قائد حملة تكفير البروتستانت والكاثوليك .. هذه سخرية من الإرادة الالهية التي تقول: “القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 12 : 14). وبعد، فهل يوجد ما هو أجلى وأوضح من ذلك لكي يدخل الأنبا بيشوي قائمة المرشحين، وبعد ذلك إذا وقعت الطامة ودخلنا في صراعات داخلية؛ نلوذ بالقرعة؟!!

عيب وعوار واضح لا يجب أن يدافع عنه إلاَّ من امتلأ قلبه بالشر، وصارت الكراهية هي سبيل حياته، وهو ما حكم عليه رسول الرب يسوع: “من لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة” (1يوحنا 4 : 8).

وهكذا نكون قد قلنا لله إننا قدَّمنا لك مَن لا يعرفك ومَن لم تشهد حياته بأنه شعلة محبة إلهية، وبورقة يختارها صبي تصبح أنت يا الله المسئول عن كل هذا ..

غفرانك يا يسوع يا رب المحبة.

التعليقات

4 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة