هل فارق روح الرب كنيسة مصر؟

سؤالٌ وصلني عدة مرات، ولكن إلحاح البعض الزمني بالرد؛ لأنني كنت أظن أن هذا مجرد هاجس عابر وسؤال لا أساس له، ولكنني أجد أن هذا الشك يغوص في ضمائر كثيرة تظن – بسبب تعليم فاسد – أن قداسة الإكليروس هي مصدر النعمة، أو أن الله يتعامل معنا حسب خطايانا. وهو ما يُعد هدماً تاماً لكل ما جاء به العهد الجديد الذي تطوع الله بصلاحه لكي يعطيه لنا في محبة لا تقبل الانفصال أساسها الراسخ الأبدي هو إتحاد اللاهوت بالناسوت في مخلصنا الصالح ربنا يسوع المسيح.

ولكن فساد التعليم حاصر هذا الاتحاد الإلهي الإنساني وجعله خاصاً بالرب يسوع المسيح وحده، وهو ما جعلني أنشر دراسة موجزة بعنوان “مع المسيح في آلامه وموته وقيامته”، وهي لم تكن دفاعاً عن الأب متى المسكين، بل شرحٌ لأساس الحياة المسيحية الأرثوذكسية التي تبشر كل المتناولين في القداس الإلهي: “وجعله واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير”، وأننا عندما نتناول “الجسد المحيي الذي لإبنك الوحيد ربنا والهنا ومخلصنا يسوع المسيح”، فإننا ندخل شركاء في هذا الاتحاد؛ لأنه هو “الرأس” ونحن أعضاء جسده (1كو 12: 2 – 12: 27)، ولأن هذا اتحادٌ سريٌ فائقٌ يفوق اتحاد آدم وحواء “لأننا أعضاء جسمه من لحمه وعظامه” (أفسس 5 : 30)، وهو هنا اتحاد الرب بالكنيسة “وأنا أقول من نحو المسيح والكنيسة” (أفسس 5 : 31-32).

وعندما وعد الرب يسوع بأن يرسل الباركليت الروح المعزي، فقد أكَّد لنا أنه “يمكث معكم إلى الأبد” (يوحنا 14: 16)، بل “ماكثٌ معكم ويكون فيكم” (يوحنا 15: 17). وقد سمع الاثنى عشر هذا، وكانت حالتهم سيئة جداً، فقد شعروا بأن الرب سوف يعود إلى الآب، ولذلك تركوا الرب وهربوا ساعة القبض عليه، وباعه واحدٌ منهم بثلاثين من الفضة، وأنكره آخر أمام جارية. ولكن التعليم الفاسد حرص على أن يؤكد تمايز الرسل، وأنهم هم وحدهم الذين نالوا هذا الوعد، بل شرح الأنبا شنودة الثالث في أكثر من مناسبة أن ما أعلنه الرب يسوع في (يوحنا 17: 3 – 21) هو خاص بالرسل وحدهم، فقطع صلته بالآباء الرسل.

ولكن هذه السحابة السوداء لا يمكن أن تبيد نور الشمس نفسه. قد تغطي مكاناً معيناً بالعتمة، ولكن السحاب دائماً هو السحاب، لا يستقر في مكان واحد بل يرحل.

لو أن الكنيسة مقدسة بسبب قداسة الإكليروس لَمَا ظهر كبار الهراطقة من الإكليروس: أريوس – أبوليناريوس – نسطور – أوطاخي، وهم بين قس وأسقف ورئيس أساقفة ورئيس دير. ولكن قداسة الكنيسة ليست مستمدة من حياتها الخاصة؛ لأنه لا توجد كنيسة صنعت نفسها بنفسها Self made church والدليل هو أن الاسم المكون هو “جسد المسيح” الذي كوَّنه الروح القدس في أحشاء البتول، وهو الذي يكوِّن الكنيسة “لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا الى جسد واحد .. وجميعنا سقينا روحاً واحداً” (1كو 12: 13)، وهو ما يجعل حياة كل واحد منا ليست منه لأننا لا نولد من الكنيسة بل من الله “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه”. ولاحظ كيف حذف الرسول كل ما يخص البشر [الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل] بل من الله” (يوحنا 1: 12 – 13). وهكذا تكوَّن جسد المسيح نفسه في أحشاء البتول: فهو لم يكن من ثمرة زواج ولم يأت بإرادة إنسان بل بإرادة الآب … وهكذا من يولد من الله، من هذا الملء أخذنا نحن “نعمة فوق نعمة” (يوحنا 1: 11)، ولذلك يستمر تقديس الكنيسة بالمسيح لأنه هو وحده لا الأساقفة أو غيرهم، بل يسوع رب المجد هو الذي “يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء مثل ذلك (الدنس) بل تكون مقدسة وبلا عيب” (أفسس 5 : 27). ولذلك نقول ونعترف: “نعم نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية”؛ لأن القداسة هم عمل روح التقديس، روح يسوع المسيح، أي روح القداسة (رو 1 : 4). ولذلك عندما يقول أحد الأساقفة الأقباط إنه عندما ينطق باسم الأنبا بيشوي يتقدس فمه ولسانه، فيكون بذلك قد نفى علاقته بالروح القدس. وعندما يقول آخر إن الروح القدس يصدر من داخله، يكون عندئذٍ قد قطع شركة الروح القدس بالابن؛ لأننا من قبل يسوع رب المجد قبلنا الروح القدس.

ويعرف تاريخ كنيستنا بطريركاً اعتنق الإسلام ومات غريقاً في النيل، ولم ترتد الكنيسة، بل أفرزت الشهداء والنساك في أشد العصور ظلاماً على مصر: مرقس الأنطوني وبولس البوشي. وفي عصر انعدم فيه التعليم الصحيح كان لدينا ابرآم اسقف الفيوم وميخائيل البحيري. في أشد عصور الظلام كانت أنوار روح الرب تلمع في آفاق مظلمة مثل البابا متاؤس الثاني، والأنبا رويس. ويظهر علماء العصر الوسيط لإنقاذ الكنيسة: أولاد العسال، ثم في عصر كادت الإرساليات أن تفتك بالكنيسة يأتي حبيب جرجس وقبله الإيغومانوس فيلوثاؤس إبراهيم، ثم تظهر بواكير النهضة بعد ذلك …

بل مَن غير الله الذي أنقذ القمص متى المسكين من عقم الرهبنة القبطية التي فقدت تراثها النسكي، فقد كانت الأدير تقرأ الأربعين خبرأً – يوحنا الدرجي – بستان الرهبان … ولكن تحت هذا الرماد كانت هناك حركة استرداد التراث القبطي على يد القمص عبد المسيح المسعودي والأستاذ يسى عبد المسيح، ثم جاء الزخم الذي تمت محاربته من الداخل لا من الخارج. والحرب المشتعلة حالياً ليست على منصب البابا الـ 118، هذا هو جلد الوحش وشعره، أمَّا عظامه ولحمه فهي التعليم الفاسد الذي أشرنا اليه من قبل، تعليم مدرسة الإنفصال التي قادها الأنبا شنودة ودعَّمه الأنبا بيشوي، ووقع فيها الأنبا موسى، ووقف الباقي يتفرجون، وكأن الأمر لا يعنيهم. ثم حرك روح الرب الأنبا بفنوتيوس أسقف سمالوط لكي يصحح مسار خدمة الكهنوت، وحوكم سراً على كتابه – كما سمعنا – لكن يظل الطريق المعوج هو الطريق الرحب الذي يطلبه أساقفة المرسيدس وكاميرات الإعلام وأضواء الفضائيات، ثم أخيراً الإستقواء بالإخوان المسلمين.

لو أنني مثل القديس كيرلس السكندري الذي يُحارب الآن ويهاجَم في سخرية، لكنت وضعت اثنى عشر حرماً ضد كل الذين يدفعون الكنيسة إلى الإرتداد، ولكنني سوف أكتفي بالتحذير؛ لأن من يقطع نفسه من المسيح سوف يعاني الضعف ويقع أسيراً للفساد الروحي وسيطرة الأرواح الشريرة.

أولاً: كل من يقول إن الكنيسة ليست هي جسد المسيح، بل هي مؤسسة اجتماعية أو جماعة مؤمنين فقط، فقد أنكر ولادته من الماء والروح وعاد إلى الولادة الآدمية الأولى التي تخضع للموت.

ثانياً: كل من يقول إن تعبير واسم “جسد المسيح” هو استعارةٌ ورمزٌ لا أساس له في الحياة الإلهية، فقد فصل الرأس عن الجسد أي فصل المسيح عن الكنيسة ولم يعد له رجاء في الحياة الجديدة الغالبة الموت.

ثالثاً: كل من ينكر قداسة الكنيسة، وأنها هي هبة الله الآب في الابن بالروح القدس لأنها، أي الكنيسة، أي جسد يسوع الذي مُسح بالروح القدس لكي نُمسح نحن فيه كما يقول القديس اثناسيوس (الرد على الأريوسيين 2 : 37-38)، فقد أنكر تدبير التجسد والصلب والقيامة أساسات الكنيسة، وفصل روح الله الآب عن الابن وضاعت منه الحياة الأبدية.

رابعاً: كل من يقول إنه يتناول جسد الرب ودمه دون اللاهوت وقع تحت طائلة حروم مجمع افسس 431 وصار شريكاً لنسطور.

خامساً: كل من ينكر حلول الروح القدس الأقنوم الثالث في المؤمنين ويدَّعي كذباً أنه حلول مواهبي فقط، فقد قطع شركته مع الثالوث وخسر ميراثه الأبدي، بل وقيامته من الأموات (رو 8: 11).

سادساً: كل من يُعلِّم بأن السرائر هي من الإكليروس وأنهم مصدرها لا خدامها فقط، فقد أنكر كهنوت الرب يسوع، وضاعت منه قوة وعمل الوسيط الواحد والرب الواحد يسوع المسيح الذي وحده يقدمنا إلى خدمة السرائر التي يوزعها هو بنفسه.

سابعاً: كل من يظن أن قداسته الشخصية مصدرها الأسقف أو القس، وأن قداسة الأسقف أو القس هي سبب بقائه في التقديس، فقد أنكر معموديته ومسحة الميرون وشركته في الجسد الواحد الكنيسة الجامعة المقدسة.

ثامناً: كل من يظن أن الأسقف أو القس أو غيرهما هم وسطاء بينه وبين المخلص والرب يسوع المسيح، فقد سقط بعيداً عن النعمة التي مصدرها وواهبها هو الرب يسوع المسيح وحده.

عاشراً: كل من يدعي بأن البطريرك هو رأس الكنيسة، أو ينطق بهذا عن معرفة، فقد أنكر رئاسة المسيح الرأس الذي منه تنمو كل أعضاء الجسد (كولوسي 2: 29)، ولم يعد له رجاء أبدي في الله لأنه جعل كل شيء مؤسَّسٌ على البشر وليس على الرب مخلص الكنيسة وفادي كل من يؤمن به.

عاشراً: كل من يعتقد بأن الرب دفع ثمن خطايا على الصليب، وأن الآب عذَّبه وأشعل فيه نار العدل الإلهي، يكون قد ذاق مرارة الارتداد عن التعليم الرسولي الذي نطق به تلميذ الرب: “مع المسيح صلب فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا 2: 20)، وفقد ينبوع الخلاص الصليب ختم المعمودية والميرون لأنه لم يُختم بختم تعذيب وانتقام من الابن، بل بختم الصلاح والمحبة والغفران والتجديد.

حادي عشر: كل من يظن إن الرب مات لكي يصالح العدل والرحمة، وأن الخطايا غير المحدودة استدعت فديةً غير محدودةٍ، يكون قد أضاف إلى الخطية صفة إلهية، وهي صفة غير المحدود، وألَّه الخطية والخطاة، وفقد عمل قوة المسيح المصلوب لأننا معه نصلب ونموت ونقوم حسب كلمات رسول الرب في (رو 6: 1 – 8)؛ لأننا بموتنا معه نقوم لحياة جديدة، ومن ينكر قوة الصليب هو ينكر مجد القيامة.

ثاني عشر: كل من ينكر أننا شركاء الطبيعة الالهية (1بط 2: 4)، وأن هذه الشركة هي شركة في الخلود – التبني – القيامة – ميراث الملكوت، فقد أنكر إلوهية الرب الذي أعطانا من خلوده ومن بنوته ومن قيامتنا ووعدنا بأن نكون على يمين الآب معه في مجيئه الثاني.

إنني لم أكتب حروماً ولكن تحذيراً أرجو إلاَّ يضيع في جلبة الغوغاء، ولكن الذين استناروا، يعرفون خطورة ما أكتب.

غفر الله الآب لنا جميعاً، وثبَّتنا في النعمة، وهو وحده حافظ كنيسة مصر جسد ابنه الوحيد؛ لأنه فادي هذا الجسد الذي هو جسده.

التعليقات

8 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة