يسوع المسيح حياتنا – 2

الخطاب الديني الزائف

من الصعب على “العطاش إلى البر” الذين نالوا “الطوبى” من الرب نفسه أن يصدِّقوا خطاب التعليم والوعظ الزائف، والذي يهدف -بشكلٍ ملحوظ- إلى جمع الأتباع وحشد الجماهير، وإبراز تعليمه على أنه التعليم الصحيح، وأن كل إنسان آخر هو خاطئ وشرير وغريب عن نعمة الله، ولا يعرف الرب يسوع.

وهنا يمكننا أن نشير إلى أن النهضة البروتستانتية في القرن الـ 18 – 19 قد كرست عدة أطروحات هي في جوهرها ثمرة الثقافة الأوروبية والأمريكية بعد ذلك:

أولاً: الفرد وليس الشخص، ومعه الكتاب المقدس، ومعه المخلص رب المجد الذي قَبِلَه في يوم وساعة معينة.

ثانياً: التشديد على “التقديس” بعد نوال “التبرير”، والمقصود من ذلك هو السلوك الصالح الذي حددته النهضة بالأخلاق الجيدة، كتحريم المعاشرات الجنسية والخمر والسينما … الخ.

ثالثاً: دفع العشور لتعضيد الرعاة ونشر الإنجيل في كل مكان.

هذه الأهداف الثلاثة لا تزال تُقال، ولا نزال نسمعها من على منابر كثيرة في مصر، وهي تبدو جيدة وحسنة ومقبولة.

لكن إذا نظرنا إلى الهدف الأول، وهو أطروحة الفرد ومعه كتابه المقدس، بإمعان وتدقيق، وجدنا أن تحت الجلد البريء المظهر زيفاً بكل ما تحمله كلمة زيف من معانِ، هنا يجب أن نحسبها “صح”.

الولادة من فوق:

الولادة من فوق لا تتم بالإرادة الإنسانية، ولا هي بالسلوك الصالح. بل هي أولاً وأخيراً من الله. من “الماء والروح”. لا يلد الإنسانُ نفسه حتى بيولوجياً، والعهد الجديد صارم في هذا الأمر: “مولودين ثانيةً لا من زرع يفنى”، وكلمة زرع هي الكلمة اليونانية Sperma – σπέρμα وهي بذرة الحياة التي توضع في رحم المرأة – ولذلك يقول الرسول: “بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية” (1بط 2: 23). وكلمة الله الحية الباقية هي ليست ما ينطق به الواعظ، وإنما هي قوة وعمل الروح؛ لأن الفصل بين الكلمة والروح انتفى بتجسد ابن الله، ولذلك قال هو نفسه: “الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة” (يوحنا 6: 63)؛ ولأن المتكلم يسوع هو الذي قال: “أنا الحياة”، أصبح الفصل بين الكلمة – الحياة – الروح مستحيلاً؛ لأن العمل الإلهي واحد، والشركة الإلهية تُعطى للإنسان “بالزرع”؛ لأن “زرع الله ثابت في المولود من الله” (1يوحنا 3: 9)، وهو لذلك لا يخطئ في معرفة مصدر حياته؛ لأن أعمال الله مناقضة تماماً لأعمال إبليس، وهو الموضوع الذي احتوى على هذا التصريح المضاد لكل ما يمكن أن يقدِّمه العقل عن الولادة الجديدة. ولاحظ أن رسول الرب يقدِّم التعليم ابتداءً من عدد 7 مؤكداً أن المولود من الله هو من يحب أخاه، وليس مثل قايين (راجع بدقة 7: 12)، ثم يؤكد بعد ذلك أنَّ “من لا يحب لم يعرف الله. لأن الله محبة” (1يوحنا 4: 7).

صحيح أن قرار الإنسان ضروري، ولكن التغيير ليس بقرار الإرادة. قرار الإرادة جيد، ولكن التجديد الكياني هو عمل الله الكلمة يسوع المسيح.

غياب لعمل الروح القدس:

لا زلنا نسمع هذا الصراخ عبر وسائل سمعية وبصرية: “اقبل المسيح”؛ وهنا يعطي التعليم الزائف الدور الرئيسي للإرادة – العواطف – الانتماء إلى جماعة معينة. وتلعب التراتيل دوراً هائلاً؛ لأنها تحرك الذاكرة لإعادة ذكرى اليوم والساعة التي فيها قَبِلَ الإنسان يسوع إرادياً، دون أن يكون هناك -في ذلك اليوم وفي تلك الساعة- تأكيدٌ على عمل الروح القدس، وعلى قبول حياة الثالوث القدوس فينا، حياة الآب والابن والروح القدس التي تُعطى لنا بالروح القدس.

وخلف هذا الغياب سببٌ تاريخي، وهو محورية عقيدة الفداء، كما صِيغَت في العصر الوسيط، وصارت العلامة المميِّزة لحركة الإصلاح، حيث انحسر عمل الروح القدس، في حين أن الروح القدس هو مُعلن يسوع رباً والهاً (1كو 12: 3).

الفدية:

تعجَّبت جداً من ترجمة إنجليزية لقداس القديس باسيليوس، تعدَّى فيها المترجم، الأصل القبطي والعربي معاً، بل والتعليم اللاهوتي الأرثوذكسي برمته، حيث ترجم: أحب خاصته الذين في العالم: He loved his own who were in the world والترجمة هنا صحيحة، لكن الالتواء المقصود هو في هذا السطر:

and, as a ransom on our behalf, gave Himself up to death

وترجمة ذلك إلى العربية: كفدية عنا قدم ذاته للموت. ص189 طبعة 2007 الطبعة الثانية. في حين أن الترجمة العربية التي بين أيدينا تقول: “وأسلم ذاته فداءً عنَّا إلى الموت”. والأصل القبطي لا يعرف كلمة فدية:

والكلمة: تعني خلاص، أو حتى فداء، وليست فدية، والمحتوى ظاهر لمن يريد أن يفهم.

أولاً: عنَّا ولأجلنا هما بمعنى واحد، والمترجم إذا انحرف عن الإيمان لا يدري أنه -بعد هذه العبارة- سوف يتناول الجسد والدم، في حين أن كلمة “فدية”، وهي بالمعنى البروتستانتي السائد، لا سيما في اللغة الانجليزية المعاصرة، هي ثمن خطية الإنسان، بينما الفدية هي عمل الفادي الله الذي يفدي، دون أن يدفع ثمناً ما.

ثانياً: وباقي النص يقول عن الموت: “هذا الذي تملَّك علينا. هذا الذي كنا ممسكين به مبيعين من قبل خطايانا”، وآخر العبارة: “نزل إلى الجحيم من قبل أو بواسطة الصليب”، لا لكي يدفع، بل لكي يهدم ويسبي الهاوية (أفسس 4: 8)، ولذلك تبقى الكلمة القبطية خلاصاً من الأسر وهدماً للجحيم.

العبث بالصلوات الليتورجية:

ولا يتمثل العبث فيما أشرنا إليه من أخطاء في ترجمة الصلوات الليتورجية فقط، بل وفي صلوات القسمة أيضاً، فقد أضافت الطبعات العربية للخولاجي بعد عام 1970 بالتحديد، صلاة قسمة تحمل تجديف الجهل، وهي صلاة القسمة التي تبدأ: “أيها الابن الوحيد الكلمة الذي أحبنا وحبه أراد أن يخلصنا من الهلاك الأبدي …”، ثم تقول: “هكذا ارتفع على الصليب ليحمل عقاب خطايانا”، ثم تضيف: “نحن الذين صرنا مديونين للعدل الإلهي بذنوبنا .. وهو الذي دفع الديون عنا”. وعندما نقول تجديف الجهل، فإننا نعني ما نقول؛ لأنها:

1- إضافات لا وجود لها في العهدين القديم والجديد، ونحن نقصد: “عقاب خطايانا”، ثم: “مديونين للعدل الإلهي بذنوبنا”. هذا تعلم الغرب الكاثوليكي والبروتستانتي معاً، والذي لا يعرفه الشرق، ومن يدَّعي أن هذا التعليم موجود عند آباء الكنيسة الشرقية، عليه أن يقدم لنا الدليل على ذلك.

2- يصل التجديف إلى مداه عندما يمسك الكاهن الارثوذكسي بالجسد في يده والكأس أمامه، ويقول -عن غير وعي- إنها لدفع الديون، وبالتالي يهين المحبة الغافرة بلا ثمن، والتي لا تطلب ما لنفسها (1كو 13: 5)، وهو مستوى الإنسان الأقل بكثير من المحبة الإلهية.

هل اكتشفت التعليم المزيف؟

أولاً: انفصال كامل لموت الرب على الصليب عن ذبيحة سر الشكر، وكأنهما حدثان كل منهما بعيدٌ عن الآخر، مع أن شخص الرب واحد، وأعماله لا تقسِّمه مهما كانت المسافة الزمنية؛ لأن كل عمل هو عطاء والعطاء هو حياة والحياة واحدة.

ثانياً: إن تعليم حركة الإصلاح الأعرج يضع رب الحياة خالق كل الأشياء في قفص التاريخ، وهو تحديداً أحداث الماضي: العلية والعشاء، فهذه الأحداث –في هذا التعليم- أحداث تاريخية مضت وانتهت، وما لدينا هو فقط ما يتذكره الإنسان، في حين أن الجالس مع تلاميذه في العلية، هو ذاته المعلَّق على الصليب، هو ذاته الذي رقد مع الموتى ونزل إلى الجحيم، وقام من الأموات لكي يدخُل حياة الإنسانية كلها؛ وهو ذاته المقدَّم على المذبح عن حياة العالم؛ لأنه لا يمكن تقسيمه إلى أحداث متباعدة، كل منها منفصل عن الآخر؛ لأن حياة يسوع هي حياة واحدة.

ثالثاً: عندما ينتقل وعي المصلي من واقع الاتحاد بالرب المصلوب والحي، إلى العواطف والأفكار التي تأتي من الذاكرة، يكون قد عاد إلى ذاته، وأصبحت ذاته هي محور العلاقة، بينما الاتحاد السري Mystical الذي يُوهب لنا بالروح القدس، هو الذي لنا يفتح مجالات الشركة في الحياة الإلهية المتجسدة، وينقل الوعي والإرادة والفكر والعواطف من الذاكرة إلى الاستنارة التي تُعطى بالروح القدس، ليصبح الوعي بالاتحاد ليس عملاً إرادياً فقط، ولا وعياً شخصياً فقط، بل أيضاً وعياً بالرب نفسه وبحضوره الإلهي السري Mystical.

هل لدينا من يسمع ويفهم، أم أن ثورة العواطف قد اطفأت نور القلب؟

د. جورج حبيب بباوي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة