الأمية الأرثوذكسية وفقدان التمييز

لم أندهش بالمرة على تعليق بعض “الظرفاء” بأنه من المحال أن يكون 120 أسقفاً قد أخطأوا في قرار منع كتاب “أقوال مضيئة”. ففي وعي هؤلاء الظرفاء تستقر “الأمية” التي لم تدرس التاريخ الكنسي، فقد رفضت كنيسة مصر، ومعها كنيسة سوريا، ثم بعد ذلك كنيسة أرمينية مجمع 451م الذي حضره 500 أسقف. لا يدرك هؤلاء أن العبرة ليست في العدد؛ لأن العدد لم يكن -حتى في تعليم الرب يسوع المسيح نفسه- له القيمة التي نالها في الأنظمة السياسية، فقد قال مخلصنا: “لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت”. العدد هاجسٌ عند الاحتكام للشعب، ولكن المرجعية في الأرثوذكسية ليست في عدد البشر، بل هي أولاً: التسليم الكنسي -الذي تحفظه صلوات الكنيسة، وهو الممارسة اليومية والأسبوعية على مدار السنة- لكل ما نؤمن به. وثانياً: هو شهادة موثقة في المجامع المسكونية والمكانية، وفي كتابات الآباء التي قبلتها الكنيسة الجامعة؛ لأنها شرحٌ للإيمان الرسولي، تشهد له، ليس النصوص وحدها، بل الممارسة أيضاً.


وفي ضوء ما تقدم، يثور السؤال: هل كان كتاب “أقوال مضيئة” ضد التسليم الكنسي أو يناقضه حتى يمنعوه؟ والكتاب هو عبارة عن فقرات كاملة من الآباء: أثناسيوس – كيرلس الكبير – ذهبي الفم – باسيليوس – النزينزي – النيسي – أغناطيوس الشهيد – ايريناوس – كيرلس الأورشليمي – الأنبا أنطونيوس الكبير .. الخ. وقد ذكرت الأسماء دون ترتيب، لعل وعي الذين أصيبوا بالعمى والذين غرقوا في اللاوعي يفيقون. فقد قال باحث قبطي معاصر أن الأقباط قد أُصيبوا بغيبوبة Coma وهم لذلك لا يفكرون كنسياً، بل يفكرون بكل أدوات ومصطلحات الثقافة المعاصرة، ثمرة الإعلام ووليدة النظام السياسي الذي خلقته ثورة 23 يوليو، والتي جاءت بعد حل الأحزاب وتأميم الصحافة، بحركة إقصاء وعزل، تسللت في كيان مصر، بل ودخلت إلى جسد الكنيسة نفسها، تراه دون أن تخطئ النظر في انتخابات البابا البطريرك بعد نياحة البابا يوساب الثاني، ثم بعد نياحة البابا كيرلس السادس.

لذلك كان من الطبيعي أن يجيء عضو نقابة الصحفيين ليقود معركة إعلامية ضد “خصومه”، ولبست هذه المعركة القميص القديم، قميص الهرطقة، ومن ثمَّ دخلت مصطلحات “انحراف عن التعليم”، “نقل عن الكتب الغربية” … إلخ وصار الصراع الإعلامي يسير في اتجاه التقسيم، إمَّا أن تكون مع الأنبا شنودة، أو مع أبونا متى المسكين!!!

وقد حاولت بعد عودتي من البعثة الدراسية بجامعة كامبريدج – إنجلترا (1965 – 1970) أن أفهم ما هي الاتهامات العقائدية ضد الأب متى المسكين، ولكني لم أجد. فقط سمعت عبارات تقال من الأنبا شنودة عن كتب: العنصرة – الكنيسة الخالدة – الباركليت في حياة الناس. وكانت هذه العبارات رأياً شخصياً افتقر إلى التسليم الكنسي. فقد كان كل ما قاله وكتبه الأنبا شنودة، وسار في ركبه الأنبا بيشوي، كان يفتقر تماماً إلى ما هو مودع في التسليم الكنسي، ولذلك لم يقدم لنا الأنبا شنودة طوال 30 عاماً بحثاً آبائياً وقانونياً، أو حتى كتابياً عما يزعمه من هرطقات. تجد هذا مدوناً في كتاب بدع حديثة، وهو مجرد مقالات تعبِّر عن رأيه الشخصي بلا مرجعية كنسية بالمرة.

للحقيقة والتاريخ، طلب مني القمص متى المسكين عدم الرد على الكتاب، وقال إنه (يقصد الأنبا شنودة) سوف يتطرف أكثر، وسوف نقع في مشاكل أكبر، ووعدت بعدم الرد طالما كان هو على قيد الحياة.

وقد جاء الاتهام بالنقل من كتب غربية، فزاعةً تعمل بكفاءة في وسط “الأميين”، ولكن أحداً لم يكتب اسمَ كتابِ واحد غربي نقل عنه الأب متى أو غيره.

كما كانت المحاكمات، ليست فقط غيابية، بل إعلامية لكي لا يعرف الشعب الحقيقة. وسكت الشرفاء من الأساقفة، وهم لا زالوا في حالة الصمت. ولذلك لم يُنشر قرارٌ مكتوب.

بين حرق مكتبة الإسكندرية وحرق مؤلفات القمص متى المسكين

أُذكِّر القراء الظرفاء بأن الذي أشعل النار في مكتبة الإسكندرية ترك خليفةً له هو الذي أشعل النار في كتب الأب متى المسكين أمام المقر البابوي. ذات العقلية الأمية التي تكره الفكر، وتطارد التراث الإنساني بالنار وبالتحريم. نفس الجريمة، وإن كانت في دائرة أقل من دائرة مأساة مكتبة الإسكندرية.

إن ما خسرناه حقاً، هو أننا لم نتعلم التمييز، وهو أعظم فضائل الأرثوذكسية، تلك الفضيلة التي أبرزها أنطونيوس الكبير في مؤتمرٍ عُقِدَ سنة 360م حسب رواية يوحنا كاسيان (الحوار مع الأبا موسى – طبعة 1985 ص 61-63)، وقد استمر الحوار طول الليل لكي ينهيه العظيم حقاً أنطونيوس بأن كل ما قيل هو جيد، ولكن أعظم الفضائل هي “الإفراز” Discernment لأن الصلاة والمحبة ودراسة الأسفار والصوم كلها تحتاج إلى إفراز.

لكن يبدو أنه كان ضرورياً إغراق الكنيسة في “العمى الروحي”، وبذلك يتم فينا قول الرب إن الذين لا عيون لهم سوف يبصرون؛ لأنهم استناروا، والذين لهم عيون لا يبصرون؛ لأن الضلال قد أعمى عيونهم. أيُّ ضلالٍ هذا؟

أولاً: ضلالُ التشيُّع، حيث أنت مع أو ضد، وبذلك ضاعت وحدة الكنيسة الجسد الواحد الذي لا يوجد فيه عضو مع عضو وعضو ضد عضو (1كو ص 12 كله).

ثانياً: كان الابتعاد عن الهوية الكنسية، بل تدمير هذه الهوية الكنسية مطلوباً؛ لكي تنمو الزعامة على رقاب عبيد الزعيم. وأنا أتكلم عن هوية المسيحي باعتباره “ابن الله”، وهكذا قيل إنها بنوة شرفية ليس لها علاقة بحياة الآب. تجدون ذلك مدوَّنا في كتب الأنبا شنودة وتسمعونه في محاضراته ومن هنا جاءت الحرب الشرسة على الشركة في الحياة الإلهية، وسُكب في سبيل ذلك ما سُكِبَ من حبر .. فضاعت أبدية أعضاء الكنيسة .. وضاعت القيامة والخلود، وضاعت سُكنى الروح القدس في المؤمنين، وتحولت هذه السكنى إلى مواهب زمانية.

ثالثاً: بل امتدت يدُ الشرِ إلى الإفخارستيا، جسد الرب ودمه، فصارت الإفخارستيا هي ناسوت المسيح وحده .. نسطورية زاعقة ..

وبعد. هل سكت 120 أسقفاً على نسطورية الأنبا شنودة الثالث؟

نعم سكتوا، ولذلك جاءت سحابة فصل الجوهر والأقنوم عن الطاقة والقوة، تلك الغيمة التي نشرها الأنبا بيشوي في سماء التعليم المعاصر، فكشفت وفضحت عورة هذا التعليم.

دكتور

جورج حبيب بباوي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة