الروح القدس والواقع

الكنيسة -في واقعها التاريخي- تعزية ومأساة معا. يهتدي بها الناس ويتوبون ويفرحون وتنمو شخصيتهم وتتأسس تشع وتبقى أحيانا كثيرة إلى جيل فجيل. وهي مكان السرقات والقتل على أعلى مستوى وألوف من الرهبان والأساقفة خلال ألفي عام كانوا أساتذة في الكيد والحقد، مسوخ لا بعدهم مسوخ، قهارون للفقراء، أقزام عند الأغنياء، قابعون في هذا الدهر، أرباب في السياسة، هازئون باللاهوت، منكرون لفاعلية الإيمان، مزدرون بالمقدسات. هذه القاذورات مرمية في كنيسة واحدة مع ضياء الأبرار.

يقول السيد: “إياكم والأنبياء الكذبة” (متى 7: 15). وهو لا يقصد بهم ناسا سيظهرون من خارج الكنيسة المسيحية. ان هؤلاء سيقولون للمعلم الإلهي: “يارب، يارب، اما باسمك تنبأنا؟ وباسمك طردنا الشياطين؟ وباسمك اتينا بالمعجزات الكثيرة؟” اسم يسوع على شفاههم. اليهم يقول: “اليكم عني ايها الأثمة”.

ان المخلص لما تنبأ عن رجاسة الخراب التي تكلم عنها دانيال حالة في الهيكل لم يشر حصرا الى الأيام الأخيرة. ورجاسة الخراب هذه تدل على الشيطان او على المسيح الدجال. قلت لا تنحصر في انقضاء الأزمنة. انها مفهوم أخيري أو انقضائي بالمعنى الذي يعرفه اللاهوت وهو ان الأزمنة الأخيرية نستبقها نحن اليوم. فكل زمانِ هو الأخير.

فكما اننا نذوق المجيء الثاني في سر الشكر – وكذا نقول في القداس الإلهي – اي كما ان الإفخارستيا هي النهار الذي لا يعروه مساء بمعنى انها هي اليوم الأخير كذلك شر الأزمنة الأخيرة حاصل اليوم والدجل صائر اليوم والإبليسية هي اليوم. كل هذا حسب القاعدة اللاهوتية ان الآن الذي نحن فيه يحمل في طياته الماضي ويحمل المستقبل. الجحيم هي اليوم بمعنى دخولنا فيها وقبولنا لشرورها.

وان هذه القراءة للنصوص الإنجيلية تتأكد من قول الرسول: “والروح يقول صريحا ان بعضهم يرتدون عن الإيمان في الأزمنة الأخيرة… ينهون عن الزواج وعن أطعمة خلقها الله ويشكر عليها الذين آمنوا فعرفوا الحق” (1تيموثاوس 4: 1-3). والواضح ان بولس يتكلم عن عصره وعن انحرافات في عصره وتقول انها قائمة في الأزمنة الأخيرة. ولا أحد ينهي الناس عن ضلالات تأتي في الحقبات الآتية من الزمان.

ان المعلمين الكذبة الذين يتحدث عنهم رسول الأمم في هذه الرسالة يعملون في داخل الكنيسة ولعلهم كانوا من المسيحيين المتهودين. والذين حرموا بعض الأطعمة كانوا ينتمون الى ما نسميه العرفان او الثنائية الغنوصية. ولكن ما يهمنا في هذه العجالة ان هذه البدع كان يواكبها دائما انحطاط اخلاقي.

ويبلغ فكر بولس ذروته في هذا الموضوع في اولى رسائله عندما يتكلم عن اقتراب يوم الرب فيقول: “لا بد قبل ذلك ان يكون ارتداد عن الإيمان، وان يظهر رجل الإلحاد، ابن الهلاك، الذي يقاوم ويناصب كل ما يحمل اسم الله او ما كان معبودا، حتى انه يجلس في هيكل الله ويعلن نفسه إلها” (اتسالونيكي 2: 3و4).

ربما كان بولس يشير الى كون المسيح الدجال هذا كان مزمعا ان يجلس في هيكل اورشليم الذي لم يكن قد سقط عند كتابة الرسالة. ولكنه كان يتكلم في كل حال عن اشخاص او وقائع لم تكن خافية عن مراسليه لأننا لا نزال قائمين على هذه القاعدة ان التنبؤ ليس حديثا حصريا في المستقبلات ولكنه حديث عن الحاضر الذي يتكرر ويحمل في طياته موضوعا مستقبليا.

ان آنية الأزمنة الأخيرة عناها الرسول لما قال: “واعلم انه ستأتي في الأيام الأخيرة ازمنة عسيرة يكون الناس فيها محبين لأنفسهم وللمال، صلفين متكبرين شتامين… لا ودَّ لهم ولا وفاء، نمّامين مُفرطين شرسين أعداء الصّلاح…” (2تيموثاوس 3 :1 الخ). اجل كان هؤلاء في عصر بولس. انها ليست رذائل مختصة بالزمان الأخير.

لم يكن بولس يعتقد ان المسيحيين الذين بشرهم باتوا جميعا كاملين. وقد ذكر بعض الخاطئين هنا وثمة بالاسم. وهو ينتظر ان يكون في بيت كبير آنية من ذهب وفضة وآنية من خزف وخشب واذا اخذنا المثل الإنجيلي ان ينمو في حقل واحد الزؤان والحنطة حتى تحصدهما الملائكة في اليوم الأخير.

ازاء هذا التعايش بين الصالحين والطالحين في كنيسة واحدة تنبهت الكنيسة الاولى منذ نشأتها ان تقصي الهراطقة عن الجماعة. غير ان انتباهها الى خطر الخطأة الكبار في القرن الرابع جعلها تقصي من عضويتها الذين وقعوا ليس فقط في الوثنية من جديد ولكن الزناة والقتلة ايضا حتى أقامت نظام المصالحة بعد فرض تأديبات على كل فئة تترجم بإقصائها فترات طويلة عن الشركة اي عن المناولة. هذا الحرم وهذا القبول هو ما سميناه سر التوبة وكان الاعتراف يُمارس جهارا. ثم أُلغي الاعتراف العلني وبقي الخطأة في الكنيسة جميعا. وسقط في الواقع الحرم على من تعدى الوصايا وعوض عنه بالاعتراف السري واكتُفي بحرم من خالف علانية الإيمان الارثوذكسي.

الشيء الوحيد الذي بقي من هذا الانضباط الكبير هو ان الاكليريكيين وحدهم كانوا -اذا ارتكبوا المعاصي الكبيرة- يفصلون عن الخدمة الإلهية. وقد ذكرت القوانين القديمة الخطايا التي تستوجب إبعاد الإكليريكي عن وظيفته. ولكن القوانين تقول صراحة ان الاكليريكي اذا ارتكب كل الفظائع لا تجوز فيه عقوبتان بمعنى انه يسوغ قطعه من الكهنوت ولا يسوغ حرمه من عضوية الكنيسة الا عند الانحراف العقائدي.

أجل يُمارَس هنا وهناك في الكنائس الأرثوذكسية تأديب الكهنة اذا خالفوا لأنهم ضعاف وليس من يحميهم. ومن الكراسي ما ليس جديا في معاقبة من انشق عن الكنيسة وتاليا يكون قد اسس كنيسة مستقلة ويكون قد مزق ثوب المسيح غير المخيط وهي معصية بنظر الذهبي الفم لا تضاهيها معصية. والله وحده يعرف الذين هم له ويعرف الصادقين.

على هذا المنوال لم أر رئيس كهنة يقطعه زملاؤه بسبب إهمال الرعاية وعلى ذلك تنص المجامع صراحة. ولم أسمع بأن أحدًا من رؤساء الكهنة أُقصي عن الخدمة في العصر الحديث بسبب من السيمونية او الرشوة او الوشاية. كلنا يعرف من يرتشي ومن يشي. هذا اذا لم نتكلم عن الإعراض عن القوانين المقدسة القائلة بأن رئيس الكهنة يجب ان بعرف الكتب المقدسة لا معرفة بسيطة بل معرفة تفسيرية. فمن التشويه ان يستدل على المعرفة عند الأسقف لكونه سيم في حين ان شرط السيامة هو ان نتبين معرفته.

ويبدو ان كل جيل مثل الجيل السابق وكل رعيل كالرعيل الذي سبقه حتى المجيء الثاني. ويبدو لك انك تأتي بالذهب الإبريز الى سدة المسؤولية حتى تذهل مع النبي: “كيف اكدر الذهب الخالص؟”
المأساة الكبرى انك -ان كنت روحانيا حقيقيا- تسمي الظلام ظلاما والقابعون فيه يسمونه نورا او حكمة، وما من معيار الا الروح القدس الذي يفحص كل شيء. ان الكنيسة لا تساس الا بالشفافية بين المسؤولين فيها والتكاشف والا صار المجمع مكانا تدبر فيه الأمور في حكمة دنيوية بلا التماس لبساطة المسيح.

يبقى ان الروح الإلهي يشق طريقه في هذه الوعورة ويجد لنفسه شهودا لا يلوون ركبة امام البعل لأنه يكون الروح قد تجلى فيهم بالنبوءة فيقولون مشيئة الله ازاء قوى الشر التي تحاول السيطرة على الكنيسة. هؤلاء هم أنبياء العهد الجديد الذين “يهدمون ويبنون ويقتلعون ويغرسون” ويسهرون ليس فقط على سلامة العقيدة ولكن على سلامة الأخلاق لأنهم يريدون الكنيسة هيكلا لله قائم كله على حجر الزاوية الذي هو المسيح. وهؤلاء لا يستطيع أحد اسكاتهم. ويعمل المستغلون للكنيسة على إطفاء روح النبوءة لأنهم يقولون ما قاله لإرمياء النبي أعداؤه: “لا نريد ان تتنبأ علينا”. فالكنيسة ليست مؤسسة عسكرية تسير بالأمر والنهي والقسر. انها حياة صادقة مؤسسة على المحبة.

والأنبياء يتابعون المسيرة حتى الدم. والنبوءة التي فيهم تحطم الأصنام. مملكتهم مملكة صدق لكونهم يبتغون مجد الله اي ان تعود الكنيسة الى بهاء العروس. هذا هو معنى الصرخة في الكنيسة. هذا وحده يجعل الكنيسة في تجدد دائم ولا تقبل ان يقولبها احد وان تصير جيشا يحكمها ضباط اذ ليس صحيحا ان المبادرات عندنا تأتي بالضرورة من الأساقفة. الأسقف لا يملك وحده كل مواهب الروح القدس. انه كما يعني اسمه باليونانية رقيب. هو يفتش عن المواهب في شعبه ويعترف بها وينميها. المواهب روافد تصب جميعا في بحر الكنيسة ونحن فيها نتكامل وكل منا بحاجة الى اخيه كحاجة العضو الى العضو في الجسد الواحد. وقد يكون رأي الكاهن والعلماني أصوب وأرشد من رأي الأسقف وكثيرا ما كان قلب المؤمن العادي اطهر من قلب الأسقف. ليس احد منا يملك المعرفة ملكا. وليس صاحب السلطان سوى خادم للجميع ويعظم سلطانه بقدر ما يخدم. ان المسيح أعلنه الآب راعيا لما كشف المخلص على الصليب انه حَمَل الله. إذا انت تواضعت وصرت مثل المعلم ذبيحة يزداد فهمك وتتخذ مقامك في عيني الله.

واذا جاء الأسقف ضعيفا او فاترا وغير ساعٍ الى الخراف ولكنه ساعٍ الى منافعه الشخصية وأهمل القطيع فكن انت بقوة الروح “وطهارة السيرة قدوة له” وتعلّم كثيرا وبلغ المؤمنين معرفة الإيمان فتصير مع من احب يسوع المسيح انت المحور. كثيرا ما لم تقم الكنيسة على الأساقفة اذا كانوا تافهين ولكنها قامت على الممتلئين بالروح القدس. وكثيرا ما لم يقم العمل العظيم على المجمع المقدس وما جاء منه الإبداع العظيم وربما جاءت دورات منه كثيرة ضحلة واقتصرت على بعض الأمور العادية. فالإبداع والزخم والرسالة والوهج أشياء يأتي بها من تقدس من المؤمنين.
ولا تقاس كنيسة بقوة رؤسائها. هذا يحدث أحيانا. ولكنها تقاس بقوة المؤمنين اذا تجملوا بأنوار المسيح. وكثيرا ما يأتي المنظور ركيكا. المهم في الكنيسة هو غير المنظور، هذا الذي رآه الله. لقد حفظت الجدات والأمهات الإيمان الأرثوذكسي عشرات من السنين في بلدان كان الأساقفة ماتوا والكهنة قلوا ولم يكن كتاب وما كانت كنيسة مفتوحة.

انت لا تخون لعلمك بأن المسيح أقوى من الركاكة الروحية المحيطة بك. انت عيناك ناظرتان الى الحبيب اذا خان جميع الناس حولك. الله يفتقد كنيسته بالمؤمنين العاديين وبهم يرسل اليها روحه. تقبل انت هذا الروح وغذِّه فيك فالروح اقوى من الزمان الرديء. نحن لسنا كنيسة بشر. نحن كنيسة الروح القدس الذي لا تقهره رداءة.

التعليقات

14 تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة