يوم الصلبوت

يوم الصلبوت، سبقه الدخول إلى أورشليم لكي يؤكد يسوع أنه ليس ملكاً أرضياً. رفض الملك الأرضي، وظل طوال أسبوع الفصح اليهودي قريبٌ من أورشليم، من مكان القبض عليه وصلبه، فهو لا يخاف من الموت.

وسبق يوم الصلبوت تقديم ذاته إلى “خاصته” من التلاميذ، إلى بطرس الذي أنكره ويهوذا الذي خانه وإلى الذين هربوا عندما اعتُقِل وحوكم أمام مجمع الكذب.

جثيماني

سبق الصلب تلك الصلاة التي لامثيل لها، صلاةُ الحي قاهر الموت، وهو يأتي إلى موته هو لا موت لعازر أو ابن الأرملة. كأس الموت خاصٌ بكل البشر، ولكنه مُرُّ المذاق يضرب جذوة الحياة ويضرب المجد الإلهي، لكن القبر ليس لمن قال: “أنا هو الحياة”، ولكنه يدخل حراً “وادي ظل الموت” الخاص بالبشر وحدهم، وهو الإله المتجسد الذي يحمل الطبع الذي لا يموت ولا يسكن القبور كميتٍ مع المائتين. ولكن هنا يسوع يضطرب ويسقط عرقه من شدة الصراع: “نفسي حزينة حتى الموت”، ليس الموت على أيدي الرومان واليهود، بل الموت الذي أصاب كل البشر. “حزينٌ” لأجل قوة الموت، ونفسه تقترب من “الحفرة – شيئول (في العبرية)، عالم الظلمة، حيث لا تسبيح للقوات السمائية، حيث يسكت الموتى، ذلك عالم القسوة والظلام الذي يحتاج إلى من يبدده بالدخول إليه والنزول إلى الحفرة، وجعٌ لا تعرف اللغات كيف تعبِّر عنه.

اللص ديماس

الوحيد الذي سمع من فم الرب إن له مكاناً مع يسوع في الفردوس، وصار لغزاً محيراً سكب الوعاظ بخصوصه المداد لكي يجعلوه من التائبين، بل من الموعوظين الذي عُمِّدوا بالدم … ولكنه ليس كذلك، بل هو غريبٌ عن كل هذه التصانيف؛ لأننا نحاول -بهذه التصانيف- أن نخلق حتى ليسوع نفسه المدخل القانوني والكنسي لكي يفقد يسوع محبته غير المشروطة للخطاة.

يسوع الكلمة الخالق لم يدفع ثمناً للخطية

تصدر هذه العبارة كاشفة عن جهل من لا يؤمنون بأن الابن هو من ذات جوهر الآب، وهي عبارة أريوسية الطعم والرائحة، تنكر أن الابن خالق الكل حسب تعبير بشارة يوحنا الرسول: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان (خُلِق)” (يو 1: 3). وإذا كان الرب هو خالق كل شيء، فمن هو الخالق الآخر الذي يدفع له الابن ثمناً، وما هو ثمن الخطية؟ ترى هل يتجاسر الجهل فيقول إنه حياة ابن الله؟ وبعد أن يدفع الثمن، هل سوف يسترده؟ من يقول إن الثمن دُفِع لله الآب، ينكر لفظاً ومعنىً أن الآب في الابن وهو على الصليب، وأن الابن والآب واحد (يو 10: 3).

لقد قدمت جسارة الجهل التجديف على ألوهية الابن، وحوَّلته من رب الحياة، وخالق الكل إلى ثمنٍ لخطية البشر. تأمل بشاعة هذا التجديف: الابن خالق كل الأشياء “الذي به وله الكل قد خُلق” (كول 1: 17)، يتحول إلى مقابل لما لا وجود له، أي للشر؛ لأن الشر عدم والوجود خير (تجسد الكلمة 4: 4). فالشر عملٌ إنسانيٌ بحت لا يمس الله بالموت، ولكنه يعود بالموت على صانع الشر، أي الإنسان نفسه. وتجسد ابن الله إنما كان لرد الحياة “الله الذي هو غنيٌّ بالرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح” (أف 2: 4 – 5). هو هنا لم يقابل عدمية الشر بدفع حياته ثمناً، بل قابل الشر بتجديد الساقط ورد الحياة، أي صورة الله (تك 1: 26). ولو تجاسر المجدفون قائلين إنه دفع ناسوته أو دمه ثمناً، فنسطورية التجديف ظاهرة؛ لأنه حتى على الصليب لم ينفصل لاهوته هن ناسوته. وحسب المستوى الأبدي للتدبير، فإن “دم يسوع (معروفٌ) سابقاً قبل خلق العالم” (راجع 1 بط 1: 19)، فما حدث يوم الصلبوت هو تدبير سابق على خلق الزمان والمكان، هو الإرادة الإلهية لله الكلمة المتجسد في الزمان (عب 10: 10)؛ لكي يعلن لنا محبته الأزلية السابقة على خلقنا (أف 1: 3).

وهكذا أسقط هؤلاء المجدفون، المحبة الإلهية الفائقة المعرفة (أف 3: 19)، وسقطوا هم من هذه المحبة بنشر الكراهية حتى لابن الله نفسه الذي أحبنا ومات لأجلنا لكي نحيا نحن بحياته كما تقول أوشية الإنجيل: “لأنك أنت حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا”، ولكن في وعي هؤلاء “أنت هو ثمن خطايانا”، وهو تعبير وتجديف لا نراه في كتب صلواتنا الأرثوذكسية، بل في تراتيل إنجيلية قديمة.

البدلية العقابية

وهي صورة أخرى من مستنقع التجديف، وهي أريوسية ونسطورية سمجة، تحقِّر ابن الله وتجعل الآب غاضباً والابن مغضوباً عليه لأنه أقل من الآب، وتنقل محبة الله الآب إلى سوق الشريعة، حيث يفتدي الابنُ الآبَ من الغضب، فيصبح بذلك غريباً عن جوهر اللاهوت الواحد، في حين أنه لم يرد في الأسفار لا دفع ثمن، ولا بدلية، ولا عقابية، ولكنها مفردات العداوة والتشفي، أُسقِطَت على الله نفسه.

يسوع في القبر

صعبٌ على العقل محب القوة والهدم والبطش أن يرى القوة مع الضعفاء، وأن يدخل معهم نفق ظلام الحياة. كان يسوع قادراً أن يلاشي الموت بكلمة منه، ولكن الطبيعة المستعبدة للموت والفساد يمكنها أن تعود من جديد إلى الموت والفساد، أما عندما قَبِل يسوع الموت ووضع بذرة عدم الفساد فينا، زرع التحول الأخير والعظيم في كيان الإنسان لكي ينمو “يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد”. وقد قال الرب نفسه إن حبة الحنطة يجب أن تموت أولاً لكي تقدم الثمر الجديد. هكذا يدخل رب الحياة ظلمة القبر، ولما قام ترك الأكفان والمنديل الذي كان يغطي رأسه ووجهه؛ لأن وجهه صار مكشوفاً “الله الذي قال أن يشرق نورٌ من ظلمةٍ أشرق في وجه يسوع”. الوجه هو الأقنوم، وليس على وجه يسوع برقعٌ مثل البرقع الذي كان يغطي وجه موسى.

طلبتنا أن تطهِّر “لجة محبتك للبشر” هذه القلوب القاسية التي تحالفت مع الشيطان لزرع العداوة والقسوة باسم المخلص محب البشر.

“لك القوة يا يسوع،

لك البركة والعزة إلى الأبد. آمين”

كل عام وأنتم بخير

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة