الحياد والشهادة

في عصر المعلوماتية اختلطت المفردات والمعاني والمحتويات لا سيما وأن الحداثة وما بعد الحداثة قد تحول الى ما يشبه “السلطة” التي تحاول أن تفرض نفسها على الواقع الإنساني.

الحياد فكرة وُلدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ورسخت أثناء الحرب العالمية الثانية، وتحولت إلى أحد المصطلحات الأساسية في عالم السياسة. كان تحالف دول عدم الانحياز في مؤتمر باندونج له دور كبير في تهدئة ميزان الحرب الباردة .. نهرو – شواين لاي – عبد الناصر وآخرون.

لم يعرف اللاهوت المسيحي الحياد بالمرة، ليس لأنها كلمة جديدة، بل لأن المسيحية لا تعرف الحياد بين:

  1. الشر والخير.
  2. الأرثوذكسية والهرطقات.

ما تعرفه الأرثوذكسية هو الشهادة، إذ يبدأ الانجيل بشهادة يوحنا المعمدان عن الرب يسوع المسيح(يوحنا 1: 8 – 1: 32 – 1: 34). ويقول الرب نفسه إن الآب نفسه يشهد له (يو 5: 37) واعتبر الرسل أنفسهم أن خدمتهم قائمة على شهادة الأنبياء ليسوع (أع 10: 34)، بل شهد الآب عن كهنوت الابن له المجد (عب 7: 17) ووصِفَ يسوع رب المجد بأنه “الشاهد الأمين” (رؤ 1: 5).

لا حياد في الأرثوذكسية:

في عتاب المحبة أقول للخائفين الذين لزموا الصمت على ما أصاب القمص متى المسكين .. هل كان صمتكم حياداً أم خوفاً؟ .. وكيف يجوز الحياد وهناك محور واحد يدور حوله كل ما أصاب الأب متى المسكين، وهو ايمانه وشهادته للأرثوذكسية.

هل وقفت الكنيسة على الحياد عندما كان الصراع ضد الأريوسية مسلحاً بقوة الأباطرة، وليس على عكس ما زعمه الذين يزيِّفون التاريخ القبطي لأغراض سياسية بأن الأريوسية كانت دعوة للتوحيد، في حين أنها كانت في حقيقة الأمر عودة للوثنية. أمَّا دعوة التوحيد، فكانت هي جوهر الله الواحد المثلث الأقانيم التي حاربها أباطرة بيزنطة، وقاد هذه الحرب نيابةً عنهم أساقفة كانت لهم مكانة اجتماعية وسياسية في الامبراطورية مثل يوسابيوس أسقف قيصرية وغيره …

ألم يقف أنطونيوس الكبير ضد الأريوسية، ونزل الى الإسكندرية وترك الوحدة لكي يشجع المعترفين؟ .. ألم تقدِّم الأديرة الباخومية الملجأ للقديس اثناسيوس الرسولي؟ .. ألم يقدم له شعب الاسكندرية الطعام والمال عندما اختبأ في مقبرة أبيه في الاسكندرية وحمل الشعب رسائله إلى ايبارشيات الكرازة؟

كيف انعدمت رجولة الرجال:

كانت وطأة الحكم الشمولي أعظم من الاحتمال … دخل الإخوان المسلمون، والشيوعيون المعتقلات، وخرجت من المعتقلات قصصٌ رهيبة أشاعت الخوف .. لم يكن لدينا منفذ واحد للمعارضة طوال 30 سنة، لكن القهر السياسي تزامن معه توفر لقمة العيش وحق الفقير في التعليم وفرص العمل في مشروعات قومية كبرى – القطاع العام – الحديد والصلب – السد العالي – مصانع السلاح …. الخ. كل هذا جعل الشعب يضحي بالحرية في سبيل الالتحام بالحراك الوطني والاقتصادي، وجاءت فاجعة 1967 وخرج جمال عبد الناصر نفسه يقول في خطاب مشهور: “سقطت دولة المخابرات”، ولكن أحداً لم يسأل كيف قامت هذه الدولة، وهو على رأس السلطة التنفيذية.

كان من الضروري أن تعود الرجولة للجيل الذي لم يعاصر الحكم الشمولي .. فقد سمعت أحد شباب ثورة 25 يناير يقول: “أنا عمري 27 سنة، متعطل، أنا في حكم الميت. جئت ميدان التحرير لأنني في البيت ميت، وهنا أموت راجل”. ورأيت ما حدث في الميدان وفي الشوارع والصدور العارية تواجه الرصاص والغازات ..

وخرج شباب ماسبيرو ليقف بكل أسف أمام مدرعات، من المفترض أنها مخصصة لحماية الوطن .. وكانت مأساة لا زالت تدور في أروقة المحاكم تبحث عن مجرم بين عناصر من أسموهم بالطرف الثالث .. وبرزت أسماء شهداء أقباط ..

دبت الرجولة من جديد لأن الصمت لم يعد بعد حلاً.

وعندما يكتب أي قبطي ويقول: “أنا محايد”، فيجب أن نظن أننا أمام معسكرين كلاهما يشن الحرب .. في حين أن الحرب الاعلامية كانت من طرف واحد، كانت مجلة الكرازة تقود حرباً لا قداسة فيها، ثم دخلت إلى جوارها بعض الفضائيات .. وصمت القمص متى المسكين، وقال لي هو نفسه إن الراهب لا يدافع عن نفسه لأن الراهب مات عن العالم …

لكن الصمت قتل الشهادة، وشق الحياد أكبر طريق للقهر، ودعَّم انعدام الرجولة، وصار للخوف مسحة من التقوى ..

بكل وقار ويقين، أقرر وأؤمن إن التخلي عن الحق الشخصي وترك الدينونة لله هو أمر غير قابل للنقاش، لكن التخلي عن حق الكنيسة لا سند له سوى انعدام الشهادة.

الإنسان الذي يقبل أن يقوم أسقف بتزوير شرائط غيره، ثم يتقدم للترشيح لكرسي مارمرقس، ويصمت دون مواجهته، لا يمكن أن يكون أقل من شيطان؛ لأن الشيطان لا يحب الشهادة. في مقابل هذا يقول الرب عن أنتيباس: “أنتيباس شهيدي” (رؤ 3: 14) لأنه لم يترك شهادة يسوع …

يا أخوة، الحياد هو أكبر خدمة نقدمها للقهر، وهو القوة التي تسند الظلم.

يا أخوة، الحياد غريبٌ عن الإنجيل، وغريبٌ عن كنيسة تصلي قائلةً: “أؤمن وأعترف إلى النفس الأخير”.

الحياد غريبٌ عن كنيسة أنجبت الشهداء، وسماها التاريخ بأم الشهداء.

لا تقل يا أخي إنني أكتب بكل حياد، أو أتناول الموضوع بحياد ..

بل قل أنا أكتب لأجل الشهادة، وقل إن هذا هو الحق .. وإن هذا هو ما حدث .. ويكفي أننا تلاميذ الشاهد الأمين، فكيف – والوقت مقصِّر – نكون بعد محايدين؟!!

التعليقات

6 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة