قيامة المسيح وفعلها في الكون: ما هي قوة المسيح القيامية وكيف بثها في الكون؟

أولاً: ما هي قوة المسيح القيامية؟

1- بالصليب دخل المسيح في مجال “الموت”. و”الموت”، في الكتاب المقدس، إنما يشير إلى كل ما يسيء إلى الإنسان، إلى كل ما ينتقص من حياته، إلى كل ما يحبط توقه إلى ملء تحقيق ذاته. من هنا أن الألم، نفسيًا كان أو جسديًا، إنما هو ضرب من “الموت”. وكذلك التعرض للظلم والقهر والذل والاستعباد؛ ومعاناة الخيبة والعزلة والفشل؛ وانطواء الإنسان على ممتلكاته وأطماعه وملذاته والانهماك بها والاكتفاء بها، مما يقطعه عن الله وعن الآخرين (ذلك هو “موت” الخطيئة)؛ وأخيرًا تلك النهاية المحتومة لحياته الأرضية، التي هي انحلال كيانه الجسدي الراهن وتواريه عن الدنيا. “الموت”، بهذا المعنى، هو إذًا مجمل مأساة الإنسانية. وهي مأساة، بالضبط لأن الإنسان يشعر في قرارة نفسه أنه مدعو إلى حياة لا حد لها وانطلاق لا حصر له، فإذا بالحدود والعوائق التي ينصبها الوجود أمامه، وبتلك التي ينصبها هو أمام نفسه، تصدمه وتدميه كما لا تصدم أو تدمي أيا من الكائنات الحية الأخرى، بالضبط على مقدار طموحه إلى الحياة الكاملة اللامحدودة.

2- لقد شاركنا المسيح في كافة نواحي “الموت” هذه ما عدا “موت” الخطيئة الذي لم يدع له مجالاً للتسرب إلى كيانه. فقد عانى من الخيبة والعزلة والفشل: تخلى عنه تلاميذه عند إلقاء القبض عليه وتركوه وحده حتى قبل ذلك، عندما كان يعاني النـزاع النفسي في بستان الجسمانية، وفشل في إقناع الشعب اليهودي وقادته، بأنه يحمل إليهم ملكوت الله ورُذِلَ من رؤساء شعبه، لا بل من الشعب نفسه الذي انقلب عليه وطالب بصلبه، وذاق المهانة والشتم والتعذيب بالسياط وبإكليل الشوك وعُلّق على الصليب ليموت عليه ببطء من النـزف والاختناق. وقبل أن يلفظ أنفاسه على آلة إعدام العبيد وعامة الناس تلك، اختبر، وهو الذي لم يعرف الخطيئة ولم يبتعد البتة عن الله، مرارة الاغتراب عنه وجحيم العزلة، فصاح: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني…”.

3- إنما ذاك الذي دخل في مجال “الموت” هذا ليشارك البشر فيه حبًا، لم يكن كسائر البشر. لقد كان ابن الله المتجسِّد، أي ذلك الوجه الإنساني الذي شاء الله أن يتخذه عندما أراد أن يشاركنا حياتنا وبؤسنا ليمنحنا حياته وخلاصه. ولكن ابن الله هذا كان بآن إنسانًا حقيقيًا بكل ما في الكلمة من معنى، حتى يتسنى له بالفعل أن يلاقي الإنسان ويخلِّصه. وكان عليه بالتالي أن يفسح المجال، بإرادته الإنسانية الحرّة، للإلوهة الكائنة فيه أن تجتاح إنسانيته كلها فتملأها بالحياة اللامحدودة الظافرة التي تمنحها تلك الإلوهة.

إن هاجس يسوع كان أن يفتح إنسانيته تماماً أمام الإلوهة الكامنة فيها منذ الأزل، والمتصلة بإلوهة الآب اتصال النور بالشمس والفكر بالعقل. وقد تمّ له ذلك في أثناء حياته، التي كانت تقبُّلاً لا تحفّظ فيه لحضور الله وإسلامًا كليًا له، مترجَمًا بتقبّلٍ لا حدود له للبشر وانعطاف بالغ على بؤسهم وشقائهم. هذا الإسلام لله، الذي كان عنوان حياة يسوع كلها، بلغ ذروته في تقبله للصليب نتيجةً لإخلاصه الكامل لله ومشاركته التامة للبشر في معاناتهم (“ليس حبّ أعظم من هذا أن يضع الإنسان نفسه عن أحبائه”). من هنا أن الصليب كان تلك اللحظة التي بلغ فيها انفتاح إنسانية يسوع لله ذروته، بالضبط في الوقت الذي عانت فيه تلك الإنسانية أقصى مرارة الاغتراب إخلاصاً لله ومشاركةً للإنسان (هذان الوجهان للصليب تعبّر عنهما كلمتا المصلوب: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني” و “أبتِ، في يديك أستودع روحي”). بهذا الانفتاح الكامل، اجتاحت الإلوهة إنسانية يسوع، فكانت ساعة الصلب إنما هي ساعة المجد (“يا أبتِ، قد أتت الساعة، مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضا”).

لم تكن القيامة سوى إعلان لهذا المجد، أي لهذا الحضور الإلهي المكثّف الذي غمر إنسانية يسوع عندما قبلت هذه الإنسانية أن تنكسر حبًا بالصليب. هكذا تجلى أقصى القوة في أقصى الضعف. تلك هي قوة المسيح القيامية.

ثانياً: كيف بثَّها المسيح في الكون؟

طبعا، هذه القوة القيامية لم يحصل عليها المسيح ليحتفظ بها لنفسه. إنما قد حصل عليها بإسمنا ولأجلنا. من هنا إنها انبثّت منه في الإنسانية كلّها، لا بل في الكون كلّه. فكيف تمّ ذلك؟

1- المسيح، من حيث لاهوته، هو “كلمة الله”، أي فكر الله الذي به صنع كل شيء. نقرأ في سفر التكوين: “قال الله: ليكن نور، فكان نور” (تكوين 1: 3). هذه الكلمة الخلاقة (التي سميت أيضا “حكمة الله”) اتضح شيئًا فشيئًا في الوحي الإلهي أن لها وجودًا مميزًا (هذا ما يمكن متابعته بالنسبة لمفهوم “الحكمة” في كتب العهد القديم). وفي العهد الجديد اتضح أنها أقنوم (شخص) له وجوده المتميز في وحدة الجوهر الإلهي: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وإلهًا كان الكلمة” (يوحنا 1: 1). واتضح أنه، بهذا الأقنوم (الذي هو “الكلمة” أو “الابن”) خُلقت الموجودات كلها: “به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كوّن” (يوحنا 1: 3). كل ما هو موجود في الكون يستمدّ إذا في كل لحظة من “كلمة الله” وجوده وكيانه ومعنى هذا الوجود وتوجيهه وغايته. وكما أن الكون موجود بالكلمة، فبالكلمة المتجسد يتجدد.

2- ولكن كيف يحصل هذا التجدُّد؟ بالقيامة، كما قلنا، اجتاحت الإلوهة إنسانية يسوع المنفتحة إليها بالصليب انفتاحًا كاملاً. عند ذاك تحررت إنسانية يسوع من محدوديتها، بما فيها محدوديتها الزمنية والمكانية، فأصبح لها الامتداد اللانهائي الذي كان ولا يزال لكلمة الله. أي أن المسيح لم يعد محصورًا في يسوع التاريخي الذي وُجد في حقبة زمنية محددة وفي بقعة محددة من بقاع الأرض. إنما أصبح حضوره المحيي يشمل الكون قاطبةً مهما تعددت أمكنته، والتاريخ كله بما فيه ماضيه وحاضره ومستقبله. لقد أصبح بالتالي “مسيحا كونيا” وامتدت إنسانيته لتشمل بحضورها الأمكنة كلها والأزمنة كلها، حاملة إليها طاقة القيامة التي انفجرت فيها. من هنا أن الإنسانية قاطبة، في انتشارها عبر الزمان والمكان، أصبحت مرشّحة لتكون “جسد المسيح”، أي امتدادًا لإنسانيته الممجَّدة، وأصبح كل إنسان، في كل زمان ومكان، مرشّحًا ليكون، إذا شاء، عضوًا في هذا الجسد الكونيّ ومستمدًا منه طاقة الحياة والانبعاث كما يستمد الغصنُ النسغَ المحيي من الكرمة التي هو متصل بها. لا بل، بما أن الإنسان متصل بكيانه بالكون، إذ يتكون جسده من عناصر الكون، وإذ أنه، حسب نظرية التطور، تتويج لمسيرة الكون الطويلة نحو الأرقى والأفضل، قلت بما أن الإنسان متصلٌ بكيانه بالكون، فقد أصبح الكون كله، بمعنى أعمّ، مرشحًا ليكون جسد المسيح، وانبثت بالتالي في الكون كله طاقة القيامة التي اجتاحت إنسانية يسوع.

ثالثاً: كيف تتجلى قوة القيامة المنبثة في الكون؟

1- قوة القيامة هذه تتجلى بنوع خاص في الكنيسة، التي أرادها المسيح طليعة التجدد وخميرته في التاريخ البشري (من هنا مثل الخميرة التي خمّرت العجين كله). إن الكنيسة، من حيث أنها، بنوع أخصّ، “جسد المسيح”، فهي تتلقى منه بكثافة – إذا ما أسلمت ذاتها له – قوة القيامة وتشعّها في العالم الذي يفرض فيها أن تكون منارته وبؤرة الحياة الجديدة فيه. أن هذا يتمّ:

أ – عبر الكلمة الإلهية التي يُفرض بالكنيسة أن تتقبلها كما تتقبل الأرض الطيبة الزرع الذي يُلقى فيها، فتصبح هذه الكلمة فيها نورًا للأذهان ومنقية للقلوب ومشددة للعزائم وموجهة في سبل الخير وطاردة للظلمة ورادعة للشرور وواقية من الضعف وموقظة للرجاء.

ب – عبر الأسرار المقدسة، التي بها يُولد المرء للحياة الجديدة (المعمودية) وينمو فيها (الميرون) ويغذيها فيه باستمرار (المناولة) ويعود إليها بعد تناقصها فيه (التوبة) ويتلقاها منيرة وموجهة ومشددة لكافة أوضاع حياته (الزواج، الكهنوت، الزيت المقدس).

ج – عبر الصلاة، التي تستدعي في أعضاء الكنيسة قوة المسيح القيامية كما يستدعي التنفس الهواء المحيي. وللصلاة الجماعية فاعلية خاصة من هذه الزاوية: “إذا جمع اثنان منكم في الأرض صوتيهما وطلبا حاجة، حصلا عليها من أبي الذي في السموات. فمتى اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي،كنت هناك بينهم” (متى 18: 19-20). هذا وان الصلاة الليتورجية تستدعي قوة القيامة في كافة لحظات الزمن (نصف الليل، السحر، الساعة الأولى، الساعة الثالثة، الساعة السادسة، الساعة التاسعة، الغروب، النوم) من أجل تجديده.

د – عبر الاجتماع الإفخارستي (الشكري)، حيث يجدد المؤمنون اتحادهم بالمسيح الناهض من بين الأموات وببعضهم البعض فيه، بحيث يؤكدون ويعمّقون في كل مرة كونهم جماعة قيامية وامتداد المسيح الناهض في التاريخ وطليعة لتجدد البشرية ووحدتها.

هـ – عبر المحبة المعاشة بين أعضاء الجماعة الكنيسة، التي تشق طريقها عبر الخلافات والتأزمات التي لا مناص منها، تلك المحبة المعبّر عنها بالمشاركة المادية والمعنوية فيما بينهم، والتي هي بآن نتيجة كونهم جماعة قيامية وسبيل إلى تحقيق هذه الصفة: “نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الأخوة” (1 يوحنا 3: 14).

2- ولكن قوة المسيح القيامية تتجلى أيضًا خارج حدود الكنيسة المنظورة، ذلك أن الكنيسة المنظورة لا تحصر المسيح، وإن كانت – أو يجب أن تكون، بالأحرى- المكان المميز لحضوره. هذا ما تشير إليه مثلاً حادثة الرجل الذي كان يطرد الشياطين باسم يسوع دون أن يكون منتميًا إلى جماعة التلاميذ. فأراد هؤلاء أن يمنعوه، لكن يسوع عارضهم (راجع مرقس 9: 39-40). هذه القوة القيامية الفاعلة في المجال الإنساني الشامل تتجلى:

أ – في كل اتجاه أصيل إلى الله ولو لم يكن مقرونًا بمعرفةٍ لله في تمام حقيقته التي انكشفت لنا في يسوع المسيح. لا بل في كل سعي أصيل إلى الحق والخير والجمال حتى لو لم يكن في الظاهر مستلهمًا من الله وموجهًا إليه، إذ أنه في هذه الحال يكون سعيًا إلى ذلك “الإله المجهول” الذي وجد الرسول بولس إشارةً إليه عند أهل أثينا (أعمال الرسل17: 23)

ب – في كل انعطاف حقيقي من الإنسان إلى أخيه الإنسان، إذ تنتعش الحياة حينئذ عند هذا وذاك ويتراجع الموت، في كل مساعدة تقدم إلى إنسان أو إلى مجموعة من البشر فتخفف عنهم وطأة البؤس المادي أو المعنوي وتنجيهم من العزلة والموت.

ج – في كل نضال من أجل تخفيف آلام البشر وإنقاذهم من الآفات التي يعانون منها (كالجوع والمرض والجهل والتخلف)، وبالتالي في كل مشروع تنمية يتناول مختلف أصعدة الحياة الإنسانية، من صحية واقتصادية وثقافية وغيرها، وفي كل إنجاز علمي يصب في الغاية نفسها.

د – في كل تصدّ للظلم الذي يسحق الإنسان في الظالم والمظلوم على حد سواء، وكل نضال مخلص في سبيل إحلال شروط توفّر للبشر العدل والحرية والكرامة والسلام.

نقلاً عن مجلة النور اللبنانية – العدد الرابع سنة 1988م

التعليقات

2 تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة