لقد نورزنا – بمناسبة عبد النيروز

معذرةً يا شهيد العشق الإلهي -الحلاج- فقد أستعرت كلمةً نطقتَ بها حسب رواية تلميذك ابن فاتك، الذي قال: إنك وأنت معلقٌ على الصليب، سمعت صوت النفير يعلن بداية عيد النيروز في بغداد، ولمَّا سألت عن سبب استخدام النفير، من ثمَّ قلت: “لقد نورزنا([1])“. فقد استنارت نفسك بالشهادة: “إن في موتي حياتي، وحياتي في مماتي، ومماتي في حياتي”. هذه عبارتك، صدىً لكلمات الشهيد البكر ربُّ المحبة يسوع: “إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض فهي تبقي وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير” (يو 12: 24)، فقد مات وقام وصار حقلَ حنطةٍ يملأ الأرض ….

العنف مثل النار، يأكل نفسه وينتهي بدماره مثل رماد تتركه النار بعد أن تخمد وتفقد قوتها.

عندما رأيت صور دمار الكنائس من قنا والمنيا وغيرهما، لمعت كلمات شهيد الإسلام في ذاكرتي. لقد كتب العنف وسفك الدماء صفحة التاريخ القديم كله، ولم يترك فصلاً واحداً إلَّا وأكَّد أن ما حدث كان صحيحاً:

* كلمة الحق يقابلها القتل.

* شهادة مساواة البشر تقابلها النار.

* شركة الوطن الواحد، تقف السكاكين والعصي والبنادق في وجهها لكي تحول جمال وقوة الشركة والتضامن إلى “مقتلة”، ودم وأيتام.

تمتد يد القتل والقتلة إلى رجال الأمن وحرس الحدود، تضرب بكل ما تحمله الكراهية من عنفٍ، فلا تقبل الكراهية، ولا يرضى العداء إلَّا بسفك الدماء حتى دم الذين لا يحملون السلاح للدفاع عن أنفسهم … ثم تشتعل النار في الكنائس … ليس ولا واحد من الذين رأوا وسمعوا، وربما شاهدوا أو كان لهم ضحية من ضحايا جرائم لبست قناع الدين لكي تكتسب شرعية، إلَّا وثارت في نفسه وجوانحه الدهشة والغضب، بل طلب ثأر العدل والقانون … ولكن تبقى الحقائق تنبت من تحت رماد النار.

* لا يمكن قتل الحرية أو وأدها لأنها مثل حركة الدم في شرايين الأفراد والشعوب … لقد دق قلب مصر قبل 7000 سنة بثقافة البناء وحضارة تقوم على العدل، ولا زال لدينا “الفلاح الفصيح” يقدم دعواه إلى فرعون مصر ساعياً للعدل.

* رماد النار لا يبقى، بل تبدده رياح التغيير … من هنا مرَّ الهكسوس والفرس والرومان، ودام حكم المماليك 600 عام ثم انهار في مذبحة القلعة، وجاء الفرنسيون وقبلهم الأتراك، ثم تلاهم الإنجليز، ولكن مصر ظلت باقية؛ لأن هؤلاء تبددوا مع نار القسوة والظلم والاحتلال، وذهب رمادهم وطواه تاريخ مصر.

عيد الشهداء ورأس السنة القبطية

أتمنى أن يصبح هذا العيد مناسبةً وطنيةً، فيقام احتفالٌ لكل شهداء مصر من رجال الأمن والقوات المسلحة، وأن تُذكر الأسماء علناً في ميدان التحرير – إذا كانت ظروف الأمن تسمح. وأن توقد شمعة لكل شهيد وكل كنيسة لأن هؤلاء كتبوا صفحةً ناصعة البياض في تاريخ حديث قديم هو تاريخ شهادة مصر، وعندما يصبح القديم حديثاً وواقعاً حياً نلمسه، فإن أصالته وصحته -كهدف ومنهج وقيمة إنسانية- تنال مصداقيةً أعظم من مصداقية دفاتر التاريخ التي دوَّنت لنا أحداث نظن أنها بعيدة، أو أنها لن تحدث.

****

يا تراب مصر الغالي

أنت لست تراباً ولا طمياً من النيل

أنت دماءٌ وحياةٌ سالت عملاً وعرقاً

ذابت فيك أجسادٌ وعظامٌ، فصرت خصباً.

نَبَتَ فيك رجالٌ ونساءٌ وأطفال، شهدوا لشمس النهار

فخاف ليل القهر أن يحل على وادينا

يا أرض مصر الغالية أنت مخاض الحرية والتقدم

وكل من حاول قتل الجنين أو إجهاضه

لن يجد على أرضك لجرائمه مكان.

****

عيدٌ سعيد يا أم الشهداء، فقد جاءت الأيام التي تؤكد ليس فقط صحة اللقب، بل جدارتك به؛ لأنه وسام يسوع على صدرك الكبير الذي يشدو في التسبحة السنوية للشهيد: “اليوم يفرح معك المسيح، ويعيِّد معك”. ونحن نعيِّد مع المسيح الذي يفرح بالشهداء لأنهم يحملون أمانة الشهادة للمحبة التي لا بُد وأن يقاومها العداء وتقاتلها البغضة، ولكن الحق صُلِبَ ودُفِنَ ولم يبقَ في القبر، فقام في اليوم الثالث.

تحية لكل شهيد مصري، عاش مصر فعاشت مصر، ومات من أجل مصر لكي تحيا مصر.

دكتور جورج حبيب بباوي
عيد النيروز (الشهداء) 2013


([1]) أي استنرنا.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة