تقوى مزيَّفة بلا أساس لاهوتي –4

الكلمة والسرائر

كنت أُدرِّس تاريخ العبادة المسيحية في القرون الأولى في جامعات بريطانيا، نوتنجهام – كامبريدج. وكان لدينا برنامج خاص لطلبة الأبحاث والخريجين، عن الجذور اليهودية للعبادة المسيحية. والعبادة هنا هي Worship وليست العبادة بالمعنى العربي السائد لدينا، والذي يلغي حرية المحبة.

من الأساس نفسه الذي بُنيَ عليه كل شيء في المسيحية الحقيقية، ونحن هنا نقصد -تاريخياً ولاهوتياً- الأرثوذكسية، التي رغم تفرعها عرقياً إلى قبط – روم – سريان روس ..إلخ، إلا أن جوهرها، بل مصطلحاتها وحياتها الروحية واحدة. وأحد أسباب هذه الوحدة هو حياة القديسين؛ لأنك ترى أنطونيو الكبير في رومانيا وروسيا وكنائس اليونان ولبنان وسوريا والعراق، ومع أنطونيوس ترى أثناسيوس وكيرلس الكبير وباسيليوس، وغيرهم من معلمي الكنيسة الجامعة.

الكلمة

يقول رب المجد: “الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة”. وقد ظن السُّذَّج أن رب المجد يقصد مجرد الكلام، ولكن الثابت أن الكلام هنا ليس هو Words بل التعليم؛ لأن حتى عبارة رسول المسيح: “كلمة الصليب”، إنما تعني رسالة الصليب، أو التعليم عن الصليب.

علامة فارقة هامة تفصل اليهودية عن المسيحية، وهي أن كلمات الأنبياء تُعد شهادةً على الإعلان الأخير: “كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عب 1: 1 – 2). لكن كلام الله ليس هو اللفظ، هنا تفترق الطرق؛ لأن رب المجد يسوع ليس لفظاً ρεμα بل هو Λογος هو شخصٌ، ولذلك، اللوغوس “صار جسداً”، أي صار إنساناً.

تعليم الأنبياء هو بالكلمة. هو خطابٌ باللسان مصدره الروح القدس. أمَّا تعليم المسيح بالكلمة، فهو ليس خطاباً باللسان فقط، بل هو استعلان الآب الذي أرسله، هو تقديم أبوة الله، وهذه ليست عبارة، بل هي العلاقة الجديدة (لاحظ كيف يقدم رسول الرب هذه الحقيقة التي تفصل بين اليهودية والمسيحية):

“الحياةُ أُظهِرَت

التي كانت عند الآب

وأُظهِرَت لنا” (1 يو 1 : 1 – 2).

ولم يقف رسول الرب عند هذه الكلمات؛ لأنها ليست كلمات:

“الحياةُ أُظهِرَت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية

التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا”.

هل كان رسول الرب يتكلم في عظة؟ بكل يقين لا.

“الذي رأيناه (تجسد الابن الكلمة)

وسمعناه (الاستعلان)

وقبل ذلك “لمسته أيدينا” (1 يو 1: 1 – 3).

نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا،

أمَّا شركتنا نحن فهي مع الآب، ومع ابنه يسوع المسيح

ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1 يو 1: 3).

لا يوجد في العهد القديم كله ما يقابل أو يماثل هذه الحقيقة الفائقة.

عندما قلت إن حضور الاجتماعات الإنجيلية حوَّلت المؤمنين إلى موعوظين، شتمني البعض؛ لأنهم لم يفهموا أن “الموعوظ” هو من يستعد لنوال الشركة في المعمودية، وأن هذه الشركة ليست بالكلام.

جيدٌ أن يستمع الكل إلى عظاتٍ جيدة، ولكن هذه العظات تفتقد إلى أهم ما يميِّز المسيحية الحقيقية، وهي الشركة في حياة الرب، ليس بالكلام ولا بالتعليم، بل بالشركة الشخصية الكيانية في شخص وكيان رب الحياة يسوع المسيح.

السلوك الأخلاقي الجيد مطلوب، ولكنه لا يكفي

في ندوة عن الميلاد الجديد هنا في انديانا، وفي حوار مع مجموعة من الخدام الكاثوليك – الأرثوذكس – الإنجيليين، كان هناك سؤالٌ دار حوله نقاشٌ طويل: هل الولادة الجديدة هي قرار الإيمان، أو قبول المسيح كما يقال في العظات؟ وكان الرد: هل الولادة الجديدة هي Self – Born بمعنى هل يلد الإنسان نفسه بالقرار الإرادي، أم أن الولادة هي من الله؛ لأنها ليست من “دم ولحم، ولا هي من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو 1: 13). الدم واللحم تلغي عمل الإرادة في الميلاد الجديد. مشيئة الرجل هي الزواج، وهي مثل مشيئة الجسد، أي هي قوة مخلوقة، هي ضد “من الله”.

وسرت حمى في الحاضرين؛ لأن من يلد نفسه، يكون قد ترك الولادة من الله، وظن أن سلوكه الأخلاقي الجيد، وهو هنا الابتعاد عن المخدرات – الجنس – الخمور – العنف    إلخ، نقول ظن أن سلوكه الأخلاقي الجيد هو الولادة من الله.

الولادة من فوق، من الله هي تحول كياني، ولذلك، فإن تقوى اجتماعات النهضة التي تجعل السلوك الأخلاقي = الولادة الجديدة، هي تقوى مزيَّفة لا علاقة لها بالمسيحية. لا يوجد مسيحي يخلق كيانه، أو كما صاغ المؤتمر Self – made خلق كيانه، بل هو خلقٌ من جديد؛ لأن هذا هو الاستعلان الذي عرفه الأنبياء بروح النبوة، ولم يدركه وعاظٌّ ظنوا أن التوبة = الميلاد الجديد.

قبول المسيح = المعمودية

والسؤال الذي يتحدى به الأخوة الإنجيليون ماذا عن الذين نالوا المعمودية ولا يسلكون حسب الإنجيل؟ والجواب: هم ساقطون، رغم التجديد. وهم بلا شك نالوا الحياة الجديدة، ولكن شهواتهم سوف تجعلهم يفقدون الشركة.

جاءت حركة الإصلاح في القرن الـ 16 بسبب الفساد الأخلاقي السائد في أوربا، ولذلك كانت الدعوة الأخلاقية هي لُب التعليم الإنجيلي، وغاب التغيير وتحول الكيان؛ لأن كنيسة العصر الوسيط كانت تعطي السرار بدون تمييز، وهو الوضع السائد في عصرنا في كل مكان. وكنت قد حاولت مع الأنبا شنودة الثالث إلغاء “أحد التناصير”، أو على الأقل إعداد الأسرة والأطفال مع رفاع الصوم الكبير، وهو ما كان سائداً في عصر الأمويين والعباسيين والمماليك، ويبدو أنه انهار في عصر حكم العثمانيين لمصر، ولكن ضاع الطلب مع إصلاحات ليتورجية أخرى هامة في معارك سياسية لا داع للخوض فيها.

وعندما ترجمت مع د. بروك أستاذ اللغة السريانية مقالة القديس فليكسينوس المنبجي عن هل يفارق الروح القدس الإنسان عندما يخطئ؟ كان الغرض هو كلمة الله التي لا تقيَّد، أي كلمة التعليم التي تبشرنا بالشركة، لذلك أحيل الأخوة والأخوات إلى هذا المقال الفريد.

الكلمة، أي كلمة التعليم، تسبق السرائر؛ لأنها تنقي وتطهر وتكشف سر المسيح للعقل، وتقف عند ذلك؛ لأن الكلمة التي مصدرها روح الرب، تسلِّم الإنسان بعقله وقلبه وإرادته للروح القدس وللرب يسوع لكي يسكن الإنسان في الثالوث.


دكتور
جورج حبيب بباوي


التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة