الحلول المتبادل – التجسد والثالوث

ليس من الإنصاف للتاريخ أن يكتب أيُّ باحثٍ درس التاريخ الكنسي، مقرراً أن تعبير “الحلول المتبادل” هو تعبيرٌ خاصٌ بالثالوث وحده، أو أنه “مفهومٌ ثالوثيٌّ قح”، أو أنه “لا علاقة له بالخريستولوجي أو بالنعمة”.

والحقيقة أن التمييز الذي يتجاوز التدبير المستعلَن بتجسد الابن، هو تمييزٌ لغويٌ لا أساس له في الواقع، أي في الحياة الالهية. فمن تجسد الرب الابن الوحيد، عرفنا الآب، وقبلناه بالروح القدس بالابن، وخارج التدبير لا يوجد استعلان قائم بذاته للثالوث.

التدبير أعلَن الآب، وأعطى الروح، وكل هذا تم في الابن المتجسد.

يبدو أن جيل الـ 40 عاماً الأخيرة لا يدرك أن التدبير هو أساس الإيمان، وهو أساس اللاهوت، أي معرفة الله.

مكسيموس المعترف

عند مكسيموس المعترف Perichoresis في أسئلة Ad Thalasssium (النص الكامل في الفيلوكاليا، مجلد 5 طبعة 1979) وفي الرد على الأسئلة نعرف ما يلي: “خلاص النفس هو الخلاص الكامل المستعلَن بالإيمان. وكمال الاستعلان يجب أن نؤمن به. استعلان ما هو فوق الإدراك، أي Perichoresis الحلول المتبادَل، للمؤمن في غاية الإيمان، والذي يتم حسب نضوج كل مؤمن ودرجة نمو إيمانه. لأنه بهذا الحلول المتبادَل يعود المؤمن إلى أصله (الله الآب)”.

طبعاً، كل ما شرحه المعترف هو خاصٌّ بالموضوع المرفوض عند بعض الإكليروس، وهو تألُّه الإنسان، ذلك لأن الإنسان بالشركة يتحرك Pros حسب النعمة، وهي التشبه بالثالوث.

في المقالة الثانية Ambiguum 2: 8 يشرح المعترف الاتحاد الأقنومي، وبشكلٍ خاص، تبادُل الصفات، فيقول: “المسيح أقنوم واحد “في طبيعتين” (حسب تعبير مجمع خلقيدونية 451). غير المخلوقة والمخلوقة التي بلا تحوُّلٍ ولا ألمٍ، والقابلةُ للتغيير والألم، يعطي -دون عائق- كل ما يخص طبيعة الأقنوم من صفات. تبادُل الصفات يتم بالحلول المتبادَل”.

وفي المقالة الثالثة يؤكد نفس الكلام (3: 10).

يوحنا الدمشقي:

استخدم القديس يوحنا الدمشقي المصطلح 21 مرة في كتاب “الإيمان الأرثوذكسي”، وبالذات في الفصل 49 لأن المتكلم الذي أعلَن “أنا في الآب والآب فيَّ”، كان متجسداً، ففي (7: 49 ثم 27: 49) يقول: “كما أن الأقانيم الثلاثة متحدون بدون اختلاط، هكذا على نفس القياس طبيعة المسيح، ورغم أنهما متحدتان إلَّا أنهما متحدتان بدون امتزاج، ورغم أن كل طبيعة تحلُّ في الأخرى Perichorousin إلَّا أن الاتحاد لا يسمح بتغيير أو تحول كل طبيعة إلى الطبيعة الأخرى”.

شهادة التاريخ الكنسي:

من التاريخ الكنسي نعرف أنه منذ القرن الثاني الذي ظهرت فيه بدعة “المشبهة”، حتى منتصف الخامس، كان التجسد، الذي أطلق عليه أساتذة اللاهوت الغربي اسم “خرستولوجي”، وحسب قاموس اكسفورد الكبير، لم تظهر هذه الكلمة إلَّا في القرن الـ 17، وهو بداية التقسيمات الغربية التي لا زال لها آثار جانبية على كل شيء في الحياة، وأولها تمزيق الرؤيا الواحدة لعملٍ واحد للثالوث، لم نعرفه ولم نتذوقه إلَّا بتجسد الله الكلمة، وحلول الروح القدس فينا.

النعمة موضوع لا زال يحتاج إلى عدة أبحاث، رغم بحث د. وهيب قزمان عن “النعمة عند القديس اثناسيوس” في رسالة الدكتوراة التي نشر أغلبها بالعربية، إلَّا أن تعبير “مفهوم – Concept” هو تعبير مروِّع، بل الأخطر منه هو تعبير “مصطلح – Term“، كلاهما يؤكد وجود فكرة في العقل. وأفكار العقل التي تسبق علاقة الشركة في الحياة الإلهية، مشكلة سوف تدوم معنا لوقت طويل.

ولو راجعنا الكلمات العربية على ما استعلِن “في المسيح”، لوجدنا أننا نتحرك في المسيح ذات حركة الحلول المتبادل التي صارت منحةً لنا بسبب تجسد الابن الكلمة. ولذلك يجب أن ننتبه إلى ما يلي:

* لم يكن التجسد حدثاً تم خارج الحياة الثالوثية؛ لأن الابن الذي هو في حضن الآب، قد جاء وخبَّر (يوحنا 1: 13-18).

* لم يكن حلول الروح القدس، حلولاً أبعدنا عن الحياة الثالوثية، بل أدخلنا إلى عمق هذه الحياة. ونحن عندما نستدعي الروح القدس في القداسات، ندخل ذلك الحلول الأبدي؛ لأن الثالوث غير قابل للإنقسام؛ لأن الانقسام هو الموت، وهو الخطية أيضاً (رو 5: 12 وبعدها).

الوجود والموجود:

الوجود والموجود، كلمتان خاصتان بالمخلوقات. وقد ظهر هذا القصور بشكل واضح في عنوان كتاب “الوجود شركة” الذي تُرجِم بمساعدة المؤلف وهو Being as Commuion لأن الكلمة Being لا تعني أصلاً الوجود، بل الكيان، والوجود هو Existance. الله غير موجود؛ لأن الموجود اسم مفعول، ويعني أن هناك آخر أوجد الله. كلمة الوجود قاصرة على المخلوقات فقط، وحتى كلمة “الكيان” في العربية هي ليست ترجمة للكلمة اليونانية όν بل تجيء من كان – يكون – كينونة – كائن.

ولأن الأسفار المقدسة والآباء لم يستخدموا كلتا الكلمتين في شرح الإيمان بالله، صار الوجود المتبادَل تعبيراً غير مقبول لاهوتياً؛ لأن الآب في الابن حياة واحدة، ومحبة واحدة، وليس لدينا سوى كلمة Being التي لم نجد مقابلاً لها في العربية سوى كلمة “وجود”.

نحن إزاء محاولات ترجمة، لا محاولات إصدار أحكام، أو حتى حكم واحد على شخص واحد.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة