الميلاد

إن لم يكن كلُ عيد تدفقَ حبٍ، يكون فقط قطعة من الزمان، ولا يصبح الزمان نقطة فينا وقد يضحي زمانه زماناً رديئاً نقضي فيه حاجتنا إلى التفاهات. أرى هنا مساحات مضاءة تقول للناس إن الميلاد آت أو أتى. هل دخلنا نحن عالم المعنى؟ مَن صاحب العيد، أو هل للعيد صاحب، أم نحن وأطفالنا المحتفى بهم، ولا سيما إذا أكلنا وشربنا ولهونا؟ هل هناك فاصل بين المؤمنين الذين يصلون وأولئك الذين لا يصلّون؟ أتحجب هدايانا من تقبل هدايا المجوس؟ شَغَفَنَا بالزينة إذا جمَّلنا الموسم فارغاً من المعبود، أليس عبادة للمخلوق؟ ألا أعطانا الله أن تنفع الذكرى.

في البدء كان الفصح أي عبورنا من خطايانا إلى حرية أبناء الله بالبر. وفي مرحلة ثانية أتت الكنيسة بعيد الظهور الإلهي الذي يعيّد له في السادس من كانون الثاني ويتضمن ذكرى عماد السيد وذكرى ميلاده حتى فُصلا لأسباب رعائية. فصلت الكنيسة الميلاد عن العماد، فجعلت تاريخه في عيد مولد الشمس في الإمبراطورية الرومانية لئلا ينضم الشباب المسيحي إلى الشبيبة الوثنية فيلهوان معا.

في الشرق بقي الفصح غالباً شعبياً. في الغرب انتقلت الأهمية إلى الميلاد مع بقاء الكنيسة اللاتينية محافظة طقوسياً على قوة القيامة. عيد الميلاد المدعو الصغير هو طريقنا إلى العيد الكبير الذي هو قلب فرحنا. الميلاد بدء الخلاص الذي يكتمل بصلب المخلص وقيامته. وهما ينعكسان فينا غلبةً على الخطيئة وخوف الموت. للرعاة قال ملاكٌ إنكم تصيرون عِظاماً إذا استقبلتم ملك الملوك الذي يدعى مخلص العالم. لقد ولد في الجسد في بيت لحم لتولدوا مع كل البشر من فوق، فتصيروا فاهمين، وبالفهم الروحي فيكم تتجدد الإنسانية كلها، وتصبح أرضكم سماءً يسكن فيها العدل، والعدل الكبير هو المحبة.

• • •

هي محبة الله لكم من الآب وابنه وروحه. فالكلمة صار جسدا وحلّ فينا وبعبارة أوضح لليونانية التي نزل فيها الكتاب “صار الكلمة جسداً لينصب خيمته في حيِّنا” فإنه يساكننا حيث نبيت، ونبيت في أرض الله الواسعة مع كل من أحبهم الله، فجعلهم أبناءه. أنتم كذلك لأن المولود الجديد جعلكم بذلك “شركاء الطبيعة الإلهية” بحيث تقر فيكم كل قوة الله وتدنون من كل إشراقات الرب؛ لتضحوا بدوركم مكللين بالضياء الإلهي.

لقد اختار الله أن يبعث إليكم بابنه لتعرفوا قرباه. هذا هو سره إنه أراد هذه الصورة ليعبِّر لكم عن احتضانه. تبناكم بملاصقتكم بشريته لتدركوا حقيقة قرباه. أجل كان له أن يخلصكم بكلمة ويبقى في سمائه، لكنه أراد بمشيئته الأزلية أن يوضح لكم محبته بصورة محسوسة، فيتصرف المسيح معكم بطريقةٍ إلهية – إنسانية لتدركوا أنكم مدعوون إلى أن تتصرفوا إلهياً. تدركون عند ذاك أنكم قادرون على تقبل الإلوهة فيكم، فلا تبقى هوة بين السماء والأرض.

ألا تعلمون إن المسيح بعدما جلس عن يمين الآب قال لكم إنكم أنتم به وفيه مدعوون بالنعمة أن تجالسوا الله، وأن ترفعوا فكركم إلى “الفكر الذي كان في المسيح يسوع”.

هذا حقق التواصل بينكم وبين أبيه؛ إذ أن طبيعتكم الجسدية قادرة أن ترتفع بلا انقطاع. غير أن هذا التواصل عطاءٌ منه، وهديةٌ منكم إليه، ليس كهدايا المجوس، إذ أن هديتكم واحدة وهي التوبة. بها تفهمون أن المسيح كما كان فقيراً، هو الذي يجعلكم فقراء إلى أبيه. وكما بات متواضعاً، يربِّيكم على التواضع الذي تفهمون فيه أن ليس لكم سوى كبر التواضع. بالتوبة تتحولون إلى وجهه، فيرتسم عليكم نوره وتغدون كلكم قامات من نور. تسقط، إذ ذاك، تُرابيتكم فيراكم نوراً.

هذا يقتضي أن تصيروا مسحاء، أي ممسوحين بنعمته وثابتين أمامه بالنعمة، وممتلئين بالفرح النازل من عنده؛ إذ ليس لكم بحق إلاَّ هذا الفرح. وما لكم من مقر إلاّ قرب عرشه أبراراً مع كل الأبرار، أحياء بكل قداسة يغدقها هو عليكم يوما بعد يوم وجيلاً بعد جيل؛ إذ ليس من تاريخٍ إلاَّ تراكم القديسين المذبوحة قلوبهم بالحب حتى يجيء الرب ثانيةً في آخر الأزمنة.

• • •

“افرحوا في كل حين وأيضاً أقول افرحوا” ولا تخشوا كونكم قطيعاً صغيراً. لا تحزنوا من هذا، فالقطيع الصغير يؤلفه كبار النفوس ولطفاء القلب. ليس لكم أن تعدُّوا المؤمنين الذين يأتون من عمق الرب. العالم الإلهي لا يخضع للأرقام. هو توهج وفي التوهج تتكون الوجوه. “هلموا نصعد إلى جبل الرب” ولا تصالحوا السقوط، والذي قدر أن يخرجكم من العدم إلى الوجود المنظور، قادرٌ أن يرفعكم إلى الوجود غير المنظور الذي يؤلفه القديسون.

ميلاد الرب وعدٌ لكم وموعد مع البرارة. ومتاع الدنيا يبقى في الدنيا وأنتم منذ الآن مخطوفو النعمة ومتكونون منها. لا تخالطوا الظلمة ولا موضعاً في الظلام؛ لأن سكناكم الملكوت. هذا ليس مُرجأً. فالملكوت يقترب دائما منكم؛ لأن المليك قد جاء واختاركم وأحبكم وأتكأتم على صدره، وهناك سمعتم كلمات لا يسوغ النطق بها. وبعد هذا فإلامَ تستمعون؟ “رنّموا للرب ترنيمة جديدة” كلما استمعتم إلى كلمات الرب.

رتلوا أمام المذود في فقركم إلى مطرحٍ في المذود. منه يأتيكم الهتاف إليه وبعد الهتاف إليه تخرجون إلى العالم لتضموا إليكم أجواق السكارى بالحب الإلهي.

عيدكم اليوم زينتكم الداخلية، وما من زينة أخرى حتى يحب الله جمالكم؛ إذ هو جماله. يحبكم الله كما يحب ابنه الوحيد بالمقدار نفسه والزخم ذاته؛ لأنكم حصلتم على مجد المسيح بين الجلجلة والقبر. لازموا بيت لحم كمنطلقٍ إلى العلى.

هذه معموديتكم الثانية. إنكم لقد متّم مع المسيح لتقوموا معه، وذلك كل يوم في نباهة النفس واشتهاء الكمال الذي ينزل من عنده. بعد هذا لا يبقى لكم ما تطلبونه. أنتم مقيمون عنده برغبة الإقامة.

الميلاد جاء لتطلبوا الميلاد الثاني لكم هذا الذي وعدكم به. الإنسان يولد من السماء قبل أن يبلغ السماء العلوية. هو أزال الهوة التي كنتم تتصورون بين ما هو فوق وما هو تحت. لأنه هو الذي أصعدكم منذ الآن إلى فوق.

هذا هو ميلاد الرب وميلادكم. إنهما واحدٌ، حتى تخرج من أفواهكم وقلوبكم ترنيمة أبدية.

المطران جورج خضر 24/12/2010

عن جريدة النهار اللبنانية

التعليقات

2 تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة