حوارٌ موجز عن الثالوث – 7

صديقنا سامي عَبَرَ من عنق زجاجة شهود يهوه إلى آفاق الدراسة والفهم، وكان لكتاب الإيمان بالثالوث لأستاذ اللاهوت السابق توماس تورانس تأثيرٌ كبيرٌ على فكره، ولكن كما هي العادة، يتابع أعضاء جماعة شهود يهوه الذين انضموا إليهم بمزيد من حملات شك تبدو أكاديمية معقولة. فقد مررت بالأخ سامي في المنطقة التجارية حيث يعمل، وبدا مهموماً، وبعد السؤال عنه، قدَّم لي كتاباً صدر عام 1940 بعنوان “الإله الحقيقي” يسخر فيه المؤلف من عقيدة الثالوث، ويضع أمام القارئ أهم افتراض كان سبب “سجس” للأخ سامي، وهو استعمال كلمتي “جوهر” و”أقنوم”، طبعاً باللغة الإنجليزية، وجادت قريحة المؤلِّف بأن الكلمتين جوهر ούσια وأقنوم ύπόστασις جاءت من المصادر اليونانية الوثنية، ولا وجود لهما في العهدين.

جورج: أريد أن أتقابل مع مدرسك لأنه يكذب عليك. أولاً لأن الكلمتين وردت كل منهما في الترجمة السبعينية للعهد القديم، وهي نص الكتاب المقدس الذي يقرأه يهود الشتات.

وإذا رجعت إلى Hatch and Redpath في مجلد بعنوان Concordance to the Septuagint الطبعة الثانية (1998)، ستجد كلمة جوهر ص 1035 وردت في ترجمة كل من أكويلا وسيماخوس وثيئودوس في نص مزمور 106: 9، وأرميا 48: 5.

أمَّا الكلمة الثانية أقنوم ύπόστασις فقد وردت في العبرانيين 1: 3 بذات المعنى الشائع في الكتابات اللاهوتية، بل وردت أيضاً في النص اليوناني (2 كو 9: 4 – 11: 17 – عب 3: 14). وعندما يقول الرسول بولس إن الإيمان هو جوهر، أو له كيان أو وجود هو الثقة، فقد استخدم كلمة “هيبوستاسيس – ύπόστασις”. ويمكنك مراجعة قاموس Bauer ص 854. ولكن أنا لديَّ سؤال هذه المرة: هل يؤمن جماعة شهود يهوه بتجسد اللوغوس Logos لأن التجسد يعني تاريخياً أن كل لغات العالم يجب أن تُستخدم للكلام عن الله الظاهر في الجسد.

سامي: هم لا يؤمنون بالتجسد. والعارف لا يُعرف.

جورج: هل تعرف أن اسم Jehovah حسب اللغة الانجليزية، هو غير صحيح، والأصح هو “ي هـ و ه”، أي يهوه، وعندما كان أي يهودي تقي يقرأ الأسفار المقدسة كان ينطق الاسم “أدوناي”، ولا زال حتى اليوم عند تحية يهودي لأي يهودي آخر يقول له “بارخ هاشم”، أي بارك الاسم، و”أدوناي” تُرجمت في السبعينية إلى Kyrios حسبما وردت في أقدم نسخ صارعت الزمان من الترجمة السبعينية أيضاً.

لماذا البحث في الأسماء، وتحديد الإيمان الحق بالاسم العبراني وحده؟

سامي: بصراحة لا أعرف إلَّا سبباً واحداً، وهو أن الأسفار المقدسة كُتِبَت بالعبرانية.

جورج: هذا غير مقبول؛ لأن الرب يسوع يقول: “تلمذوا جميع الأمم” (متى 28: 19) وهذا لا يعني بقاء التعليم عبرانياً. ثم لماذا ترك شهود يهوه عيد العنصرة الذي تكلم فيه الآباء الرسل بكل اللغات بما فيها العربية (أع 2: 11)؟ هل من الصواب حصار عمل الروح القدس في اللغة العبرانية؟ لماذا ترجم شهود يهوه الأسفار كلها في ترجمة إنجليزية خاصة بهم مشحونة بالأخطاء؟

سامي: أنا في الواقع لم أنتبه إلى أهمية العنصرة حتى ذكرته أنت.

جورج: كتاب “الإله الحقيقي” كتابٌ رديءٌ جداً، والكاتب مثل الكاتب الآخر الذي ألف “ليكن الله صادقاً”، يبدو لي من دراسة الكتابين معاً وغيرهما من كتب شهود يهوه، أن عقائد المسيحية الأساسية غابت تماماً من وعي هؤلاء وهي: تجسد الكلمة – سكنى الروح القدس – سكنى المسيح فينا بالروح القدس.

لا يوجد تعليم يستحق كلمة تعليم عن العشاء الرباني، أو عن الولادة الجديدة. وغياب هذه العقائد هو سر ذلك الهجوم العنيف على عقيدة الثالوث؟

سامي: كيف؟

جورج: التجسد أعلن لنا بنوتنا للآب، ولذلك كان الإعلان هو عن بنوة في الآب نفسه. البنوة ليست كلمة تقال، بل هي حقيقة كيانية تعبِّر عنها الكلمة، ثم هي تخصيص في الحياة الإلهية. هي ما سُمىَ “هيبوستاسيس”، أي أقنوم. ثم سكنى الروح القدس فينا. هذه السكنى أو الحلول هي التي تجعلنا نعيش الحياة الإلهية.

سامي: ذكرت أن المسيح فينا بالروح القدس. أنا لازلت متحيِّر. لماذا هذا التعقيد؟

جورج: ليس هذا تعقيداً بالمرة، ولكن أنت تستطيع أن تكتب بيد واحدة على الآلة الكاتبة، أو اللاب توب وتستطيع تكتب بيديك الاثنتين. الروح القدس يقدم لنا المسيح؛ لأن الثالوث كله يُشركنا في حياته، والأقانيم الثلاثة معاً تعطي لنا هذه الشركة.

سامي: طيب. وماذا عن الآب؟

جورج: الآب هو غاية أو هدف اشتراكنا في الحياة الإلهية. نحن نأخذ التبني بعد أن كنا عبيداً من الآب في الابن، والذي يقدمنا إلى هذه العطية، أي عطية شركة الحياة، هو الروح القدس. غاية أو هدف كل شيء هو أبوة الله الآب لنا؛ لأننا فيه ومنه أخذنا بداية وأصل وجودنا، ومنه وفي الابن ارتفعنا من الحياة البيولوجية الفاسدة القابلة للموت إلى حياةٍ أعظم، وهي حياة الخلود التي ننالها كاملة في يوم القيامة.

سامي: ما هو إذن عمل الروح القدس؟ لا يكفي أن تقول إنه يقدمنا. هل يفعل أكثر من ذلك؟

جورج: بكل تأكيد هو يقدسنا – ولن تجد عند شهود يهوه، أو حتى الإنجيليين أي تعليم حقيقي عن التقديس. نحن نتقدس، أي يعيد إلينا الروح القدس ما هو خاص بكل شخص منا. نتحول بالروح القدس من أفراد إلى أشخاص.

سامي: على مهلك. ما هو الفرق بين الفرد والشخص؟

جورج: فرق جوهري، وهنا لعلك سمعت أنني استعملت كلمة جوهري، أي فرق حقيقي؛ لأن الجوهر هو حقيقة الوجود، أعني أحد معاني الكلمة. الفرد هو كيان بلا علاقات ينمو منفرداً بلا شركة، تغلبه نزعة الانعزال، ولذلك لا ينمو ولا يتطور. الفرد هو الأناني الغير القابل للنمو، أما الشخص، فهو الفرد عندما ينمو ويصبح له ما يميزه من صفات حسنة أو حتى شريرة، له كيان خاص متمايز، وهو أي الشخص صورة أرضية كاملة للأقنوم الإلهي؛ لأن الأقنوم ليس فرداً يحيا في عزلة: “في البدء كان اللوغوس، وكان اللوغوس عند الآب”، أو مع الآب في شركة مع الآب كما ذكر إنجيل يوحنا (1: 1-3).

سامي: لنعد إلى موضوع الروح القدس.

جورج: بكل سرور. يعطي لنا الروح أن نسترد خصوصية كل منا؛ لأن هذا هو التقديس، وهذه الخصوصية تُسترد بالشركة في حياة الابن. المسيح يسوع فيَّ وفيك. ولكن هو شركة خاصة. الحياة واحدة، والهبة واحدة، والنمو مختلف، فالروح يقدِّم لنا معرفة روحية بالرب يسوع لكي لا نعثر بسبب تجسده وموته، هذه المعرفة توصف بأنها استنارة ويعطي لنا أن نتقدم بمنطق المحبة.

سامي: ما هو منطق المحبة.

جورج: تجده كاملاً في (1 كو 13: 1-8). هو دستور المحبة الحقيقية الذي لا يحب أن يختلط بالمحبة كمشاعر وعواطف. هو قناعة داخلية بالشركة ورغبة في أن نعيش للمسيح لا لأنفسنا. عندما قال الرسول بولس: “مع المسيح صلبت” كان يقصد أن كل المُثُل العليا للعالم، ونظريات العلاقات الاجتماعية معاً، هو شيءٌ عظيم وثمين، أصبح بلا قيمة؛ لأنه يقول بعد ذلك: “العالم قد صُلِبَ لي وأنا صُلبتُ للعالم”. لا يوجد لدى بولس إلَّا منطق المحبة، وهو بذل الذات؛ لأن جذر الخطية هو البحث عن الخلود في المقتنيات، وفي كلام المديح، وفي الشهرة، وفي الجنس، وحتى العنف الدموي هو صورة للذات التي تألَّهت، وصارت تبحث عن ذاتها بالقتل والعدوان. فالروح يعين ضعف الإنسانية التي تريد الخلود الذاتي من الجسد ومن مُثُل العالم، أي الحياة الاجتماعية لكي تقبل الصلب مع المسيح، أي ترك الذات والاتحاد بالمسيح. بدون الروح القدس لا حياة لنا، بل الموت الحقيقي وهو انحصار الذات في الذات، وانعدام القدرة على العطاء، أو حتى بذل الذات. بالروح القدس يدخل المسيح المصلوب والحي فينا لنسلك بالمحبة حسب كلمات الرسول بولس في (1كو 13: 1 وبعده)، لا نقبِّح لأننا نسعى وراء الرحمة الإلهية. لا نتفاخر لأننا لم نصل للنعمة بقوتنا الذاتية. لا نطلب الشر للآخرين. لا نقبح حتى إذا رأينا القبح والخطية؛ لأننا لا نملك أن نهين خليقة الله الآب. ولعل “المحبة لا تطلب ما لنفسها هي تحوُّلنا من أفراد إلى أشخاص.

سامي: لقد درست كتاب د. توماس لورانس جيداً، وأنت أشرت إلى ترجمة عربية صدرت في القاهرة، هل لديك دراسات أخرى؟

جورج: نعم أُشير عليك باقتناء المجلدات الخمسة للأب الأرثوذكسي Dumitru Stanlioae والمجلد الأول عن استعلان ملكوت الله والله الثالوث.

سامي: إذن الإيمان بالأقانيم هو ضروري لفهم علاقتنا الجديدة بالله.

جورج: نعم لأننا ندخل أعماق الحياة الإلهية بواسطة الوسيط يسوع المسيح ربنا، وفيه ننال التبني، ومنه نقبل الروح القدس. ذات الروح الذي كوَّن إنسانيته في البتول مريم أمنا الطاهرة هو الذي يكوِّن كياننا الجديد.

سامي: لكي لا أقع في الحيرة من جديد، فأنا أصلي للآب، وهذا يعني أنني أصلي للابن والروح أليس كذلك؟

جورج: نعم. هذه الحيرة ستدوم معك بعض الوقت؛ لأننا نحب الانفراد، ولا تأتي إلى الشركة والعطاء بسهولة، ولذلك نحتاج للروح القدس. لقد تعوَّدنا على فهم ومخالطة الفرد، ولذلك تجد قوة الشركة عندنا ضعيفة. الثالوث شاركنا حياتنا لكي نشاركه حياته. سوف يأخذ هذا بعض الوقت، حتى ينير الروح القدس فكرك، وعندئذ سوف ترى بنوتك في الابن، وقوتك من الروح، وغاية وجودك في الآب.

سامي: لا بُد من لقاء آخر.

جورج: بكل تأكيد، ربما بعد عيد تجسد الرب. وبالمناسبة كل سنة وأنت طيب. لاحظ أنه ليس عيد ميلاد طفل اسمه يسوع حسب التقوى الشعبية، ولكن عيد تجسد الله.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة