مرةً أخرى، رسائل الأب فليمون المقاري

مرةً أخرى أجد نفسي مضطرًا لأن أخوض غمار الحديث عن بديهيات وحقائق سُلِّمت إلينا من التاريخ الكنسي بواسطة أُناسٍ أشراف مثل يوحنا كاسيان الذي جاء إلى الإسقيط وسجَّل المناظرات مع بعض الآباء، ولم يتهمه أحد بأن ما كتبه هو اختراعٌ من وحي الخيال. ولم نعرف حتى الآن أن واحدً من أساقفتنا قد سلَّط نار الشك والاتهامات حول جميع أقوال الآباء التي دوِّنت في كتاب بستان الرهبان، خصوصًا وأنه لم يكن معاصِرًا للحوادث التي رويت.
وفيما له صلة بالموضوع، غنيٌّ عن البيان أن هناك مسافة زمنية تفصل بيني وبين الذين هاجموا في بغضة شديدة ما نُشِر عن قداسة البابا كيرلس السادس، أو أبونا فليمون المقاري. فعندما كنت في معية البابا كيرلس في مار مينا – مصر القديمة، أو كنت أذهب لزيارة دير الأنبا مقار أثناء الدراسة في الإكليريكية، ربما كان بعضهم ما يزال تلميذًا بعد في المدرسة الإعدادية، ولم يكن على علاقة ولا معرفة بالبابا كيرلس من قبل، ولم يكونوا قد تعرفوا إلى أبونا فليمون. فبأي حق ينكرون علينا ما حدث معنا وما سمعناه؟ ولماذا يلقي هؤلاء ظلال الشك على ما نشرناه؟ يبدو لأن ما صار يُعرَف في علم النفس بالحياة والأفكار السلبية يعشش في عقولهم ويملك عليهم حياتهم.
الإفراز الذي عرفناه من دراسة التاريخ
بعد أن شاهد الفيديو الذي يشكك فيه الأنبا يسطس في رسائل أبونا فليمون المقاري، كتب إليَّ صديق يطالبني بوضع كل الحقائق التي أعرفها. وكنت قد كتبت في مقدمة الكتاب الذي أصدرناه عن هذه الرسائل القصة كاملة، وليس مطلوبًا من كل شخصٍ مرَّ بتجربةٍ ما أن يكون لديه شاهد على ما حدث، خصوصًا إن كانت هذه الحوادث، حوادث خاصة ليس لها صفة العموم، وهنا يصبح الشاهد على صحة الواقعة والقول هو اتفاق إيهما مع الحياة والتسليم الكنسي للإيمان. وهو ما ينطبق على مناظرات يوحنا كاسيان وما كتب في كتاب بستان الرهبان، وما نشرناه نحن عن البابا كيرلس وأبونا فليمون، وربما يكون هذا هو ما منع الأنبا يسطس من أن يطلب دليلًا من الأنبا مينا أسقف جرجا على صحة واقعة رؤية أبونا فليمون لأنبا مقار وهو يدفع الطائرة الحربية عن السقوط في الدير. ألم يجد الأنبا يسطس في تلك الواقعة تحديدًا سببًا مقنعًا له بصحة ما نشرناه عنه؟ شيء عجيب!
لا شك أن غياب الوعي بالحضور المتجسد لله الكلمة، يؤدي إلى الاضطراب وغياب قواعد التمييز. وهو ما يُنتج مثل هذه الاحكام المرسلة التي لا تستند إلَّا إلى مجرد الإنكار، أو ما يتصورونه معقولًا أو غير معقول، دون أن تكون هناك قواعد واضحة للحكم بالمعقولية أو عدمها. وهنا أود أن أشير إلى أن تجسد الكلمة قد وسَّع من دائرة ما هو صحيحٌ ومقبول، لأن التجسد جعل كل ما هو إنساني -مهما كان مصدره- مسيحيًّا لأن المسيح يسوع ربنا جاء لكي يعيد إلينا الإنسانية الضائعة.
تلك قاعدة هامة للحكم على التراث الإنساني بصفة عامة، لأن الإنسانية حلقة فكرية كبرى أكبر من أي حلقة مذهبية، وبالتالي قد تجد ضالتك عند آخرين.
في أمريكا يوجد قسٌ كاثوليكي يكتب تأملات يومية، وكان اهتمامه بالمذهب البوذي، أي Zen ما جعله يأخذ من هذا المذهب ما رآه يماثل تعليم بعض النُّساك، فقد ذاق ما هو عام في ثقافة إنسانية، ولم يحاصر نفسه في مصادر كاثوليكية. هنا يصبح الاهتمام بما هو إنساني هو اهتمام يسوع ربنا نفسه، ولم تكن وصايا المسيح يسوع إلَّا إبراز هذه الحلقة الكبرى التي ينتمي إليها يسوع، مقارنةً بالحلقة الضيِّقة “عين بعين”، تلك التي قال عنها غاندي العبارة المشهورة: “عين بعين تجعل العالم كله أعمى لو طُبِّقت في كل حياة كل إنسان”.
فما هو النقد الذي يمكن أن يوجَّه لرجلٍ ذهب إلى الدير من أجل يسوع، ورفض الخروج للعلاج من البواسير وطلب الشفاء من الـ 49 شهيدًا وشُفي فعلًا؟ مَن يصدق هذا هو مَن لديه إيمان بالشفاء وشفاعة القديسين، ومَن يكذِّب هذه الرواية يكشف عن أنه لا يؤمن بالمعجزات.
فهل ما كُتب ونُشر كان من وحي الخيال؟
مرةً أخرى: هل كان بستان الرهبان من وحي الخيال؟ هل كانت قصة زيارة بفنوتيوس للأب العظيم أبي نفر حقيقية؟ سؤالٌ هام. ولكن السؤال عن نوع الحياة التي نحياها نحن هو الذي يحدد الإجابة؟ هل لديك تكذيب لما لم تعرفه أو تعايشه؟ هل ما ورد عن الينبوع والنخلة وانقطاع أبي نفر عن كل مستويات العلاقات الاجتماعية هو محضُ خيال؟
كان الأب فليمون لا يخرج من القلاية إلَّا قليلًا، وله عبارة هامة: “أسيب يسوع وأطلع أقعد مع الناس؟” هل يمكن أن تكون مثل هذه العبارة تعليمًا خاطئًا، أو هل يتطلب نشرها شاهدًا آخر على سماعها حتى يتأكد شخصٌ لم يتقابل مع أبونا فليمون من أنه هو قائلها بالفعل؟ تلك عبارةُ شخصٍ أَحبَّ يسوع إلى هذه الدرجة، ومن كان يعشق الرب سوف يجد في خبرته ما يدعِّم صحتها دون أن يكون هناك شاهدٌ عليها.
ما هو معيار الصدق فيما نشرناه؟ هل هو معيارٌ شخصي فقط؟ أم أنه يستند على حقائق عن حياة آخرين وردت في بستان الرهبان لبشرٍ مثلنا، ولكنهم أحبوا يسوع مثل أغاثون الذي وضع حجرًا صغيرًا في فمه ليتقن الصمت. وقبل إتقان الصمت، أدراك الأب أغاثون أنه يحتاج للصمت من أجل صلاة القلب، وهي “أحلى من العسل”، ولن أذكر اسم من قال ذلك لأن خبرة الحياة في المسيح تغنينا عن العنعنة، ولأن ميزان التمييز لا صلة له بالتواتر، بل بتذوق حلاوة اسم يسوع كما نقول في الإبصاليات.
هل اختبر المشكِّك أن اسم يسوع هو الثوب الذي يعطي الدفء في الجو البارد. أو أنه هو القوة التي تعطي الحياة لمن يتعلق به؟
الشك يكشف عن نوع حياة وطريقة تفكير الشخص الشكاك. وقد اتخذ الذين يكرهونني الشكَّ منهجًا، وهل يوجد دليل أكثر من أن قرار حرماني كان بلا محاكمة، لأن الذي أصدره كان يعرف أنه في المحاكمة، سوف يُصدر الحكم على نفسه هو؟
الفوضى الفكرية
ما لدينا من أحكام تصدر على عواهنها، يؤكد ما لدينا من فوضى فكرية، أو ما يعرف بالكلمة القبطية “سجس”، وهي تلك الفكرة السلبية التي تقدَّم لهدم فكرة “سامية وإنسانية”. هي الشوشرة باسم ما هو مقدس.
حدث أن دخل راهبٌ على بعض طلاب القسم النهاري بالكلية الإكليريكية، فوجد اثنين من الطلبة يلعبان الشطرنج، فقرر فصلهما، ولكن د. وهيب عطا الله رفض القرار وتمنى لو كان لديه الوقت ليلعب الشطرنج. وصف الراهب الشطرنج بأنه “انحلال”، وهي كلمة قاسية، وتعني في الحياة الرهبانية رفض نذور الرهبنة، ولكن الشطرنج يعلِّم من يفهم هذه اللعبة التدبير ووضع الخطط. هذا ليس انحلالًا لمن لم يقيِّد حياته بالرهبنة.
كان لدينا تفسيرٌ لوضع اللفائف على اليدين أثناء صلاة الصلح، وهو أن الكاهن يغطي يديه ليعبِّر عن سقوط آدم وتعرِّيه من النعمة. بينما لدينا شرحٌ آخر، وهو أن الكاهن يغطي يديه لأن الكاهن هو يسوع المسيح نفسه، ولذلك، فحسب قولٍ لذهبي الفم: “يقدِّم الكاهن يديه وشفتيه ليسوع”، وهو بالتالي، أي الرب هو الذي يخدم السر، ولذلك كانت صلاة الصلح هي تأكيد على عمل الوسيط أكثر من تأكيدها على سقوط آدم، لأن الوسيط والمُصالِح هو الرب يسوع، ولذلك يغطي الكاهن يديه في حضوره تأكيدًا لهذا الحضور. بالطبع، إن تأكيد عمل المصالِح يسوع أعظم من كل ما يجول في عقولنا من أفكار، وهو شرحٌ يقع في دائرة التدبير، تدبير الوسيط الواحد يسوع المسيح.
لقد حاولت أن أحيا مثل أبونا فليمون، ولكن تيارات كثيرة حملتني إلى حيث لم أكن أريد. كان يقول: “يسوع وحده هو كل فكرك وكل قولك وما زاد على ذلك هو غير ضروري، بل وضار”. لم أدخل بعد هذه الحياة الحرة من كل فكرة، ومن كل ارتباط.
قال أيضًا: “إن وجوده هو أعظم من أي فكرة وإن الحبس في القلاية علَّمه ذلك لأن كيانه في المسيح أعظم من أي فكرة. وأنه عندما أيقن ذلك صار الصمت سهلًا وصار الحبس في القلاية شهيًّا”. هذا لا يطيقه من كان يسوع بالنسبة له مثل جريدة الاهرام أو الـ I Pad عندئذٍ يصبح يسوع مشكلةً له. لقد قيل “أرني قلبك لكي أعرف كيف تحكم على ما تسمع. فإن كان قلبك نقيًّا صارت أحكامك نقيَّةً”. وقيل أيضًا: “ما لم تختبره، لا تسكبه مع ماء استحمامك”، على اعتبار أن ماء الاستحمام يحمل قذارة الجسد، وهي قذارة أقل كثيرًا من قذارة العقل.
الأمرُ إذن هو أمرُ خبرةٍ قبل أن يكون مادةً مكتوبة. ولكن المشكلة هي أن لدينا مَن يظن أن ثوب الرهبنة أو عمامة الأسقف كافيان بحد ذاتهما لإصدار أحكامٍ لا تقبل النقض أو النقد، حتى لو كان أيهما لا خبرة له أو يجهلُ أمرًا ما!

التعليقات

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة