هل تمنح الإفخارستيا بالضرورة، الشفاء الجسدي؟

تابعتُ الجدل العقيم والاتهامات المتبادلة بين أطرافٍ كثيرة تتحفر للهجوم والدفاع، حول ملعقة التناول وما إذا كان سر الإفخارستيا يمنحُ بالضرورة الشفاء الجسدي للمتناول. وتظهر المأساة في تحوُّل الجدل إلى اتهام بعدم الإيمان من قِبَل من يقولون بأن سر الإفخارستيا يشفي من الأمراض، وبالتالي كيف يمرض من يتناول الجسد المحيي بمرض الكرونا؟ وهكذا ارتبط الشجار -حول صحة الإيمان- بوسيلة تغيَّرت عبر الزمن، وهنا صارت الممارسة أي الطقس هي الإيمان! ونسينا أننا جميعًا في لحظاتٍ ما سوف نموت رغم أننا نتناول السر المجيد.

الشفاء من أمراض الجسد ليس له هذه الأهمية عند الرب، لأننا سوف نموت جميعًا، إن لم يكن بالأمراض فبالشيخوخة، وقد شاخ ومات آباءٌ عِظام مثل البابا كيرلس السادس، وأثناسيوس الرسولي نفسه، ولم يحاول أحد في العصور السابقة أن يقول إن مَن تناول الجسد المحيي والدم المحيي سوف يحيا حياة جسدانية إلى الأبد.

لقد ظهرت الملعقة، ربما بعد 500 سنة من تاريخ الكنيسة، ويرتبط تاريخها بمحاولة تجنُّب سوء استعمال سر الإفخارستيا. وكان الجسد يوضع في يد المتناول حسب شهادة العلَّامة أوريجينوس، وكيرلس الأورشليمي، وكيرلس الكبير وغيرهم.

ولكن في خضم حمى الاتهامات، ظهرت ترجمة عربية عن استخدام الملعقة في كنائس بيزنطة وسوريا ومصر، وهي دراسة تاريخية للأب روبرت تافت Taft وتعريب الأب القس مينا القمص اسحق والأستاذ موريس وهيب، وهي أول وأكمل دراسة عن “ملاعق التناول” في الطقس البيزنطي، أتمنى من الآباء الأساقفة والكهنة الاطلاع عليها.

وأيضًا لا بُد من الاطلاع على دراسة الأب متى المسكين عن الإفخارستيا في 800 صفحة، وهي أكمل دراسة تاريخية، وتسد فراغًا كبيرًا في تاريخ الفكر المسيحي.

نعرف أن البابا كيرلس السادس كان يتناول كل يوم ما عدا الأيام التي دخل فيها مستشفى هرمل بمصر القديمة ليعالَج من حصوة في الكلى، ورقد في الرب. وهكذا لم يمنع التناول الموت عن قداسته. ونفس الشيء يجب أن يقال عن قداسة البابا شنودة الثالث، الذي كان يعاني من فشل في الكُليتين، ولم تمنع الإفخارستيا الموت عنه، ولا عن الأب متى المسكين، أو القمص بيشوي كامل الذي مات بالسرطان. وقد مات الأنبا باخوميوس أب الشركة بالطاعون عندما انتشر هذا الوباء في صعيد مصر في سنة 346 ورقد أب الشركة في 14 بشنس من ذات العام.

والسؤال الحاسم: لماذا لم ينل كل هؤلاء الشفاء؟

والجواب هو أننا لا نملك أن نقيِّد إرادة الرب يسوع لأنه حُرٌّ في العطاء. أحيانًا ينال البعض الشفاء الجسداني مع الروحي، لكن لا يمكننا أن نجعل من العطية قيدًا على إرادة الرب يسوع، هو حُرٌّ يشفي، أو يأخذ نفوس من يريدهم.

لقد وعدنا الرب يسوع بالحياة الأبدية، وبالقيامة في اليوم الأخير، وبشفاء النفس. أما الموت الجسداني، فهو أمر ضروري ليعود الجسد إلى التراب لكي يقوم في اليوم الأخير.

الرب هو غاية السر

لم يكن التناول “دواءً” لأي مرض جسداني، وإنما كان حسب عبارة الشهيد أغناطيوس “ترياق عدم الموت”. ونحن ندخل كورة الأحياء إلى الأبد أورشليم السمائية بقوة الذي ذُبِحَ عنا.

مشكلة هذا الجيل أنه تجنب الحديث عن موضوع الموت، فزاغ بصره وانخدع بمنظومة إنجيلية ظنًّا منه أن الخلاص يبدأ بالخطية، وهي تلك المنظومة التي عبَّرت عن سوء فهم القديس أغسطينوس لِمَا عُرِفَ باسم السقوط، والتي ينتهي فيها التدبير بالخطية، بينما منظومة الإسكندرية تبدأ بالموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس، ولكنه هُدِمَ بموت الرب، وهو الدواء الذي سحق الخطية، وما أبعد منظومة الإسكندرية عما هو سائد عندنا اليوم.

لا شك أن ما يحدث لدينا من صراع الآن هو نتيجة طبيعية لخداع البصر الذي عانى منه هذا الجيل، وهو ما يجعلني     أشعر بالأسى وأنا أكتب عن الإيمان، الذي هو اشتراك واختبار، وكلمة شركة Communion تعني الإيمان أو الاشتراك بالذي نؤمن به.

عندما تنهار منظومة العصر الوسيط التي أطبقت على أنفاس أُم الشهداء، وتحل محلها منظومة الشركة التي عرفناها منذ العلَّامة أوريجينوس، سوف تعود السرائر اختبارًا، وسنعود نفهم اللغة من خلال أحداث التدبير، ولنا عودة.

د. جورج حبيب بباوي

التعليقات

3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مواضيع ذات صلة